خطورة فلسفة الانتظار أكبر من أن يحصيها العدّ لو أردنا العدّ، ولا يمكن أن نحيط بآثارها، فهي التي تدفع إلى الترهل الاجتماعي والفكري والثقافي والسياسي، وهي التي تحول حياة الإنسان إلى رحلة من العبث، وإلى انتظار ما لا ينتظر، على العكس تماماً من ثقافة العمل والتنافس والإنتاج، وفي كل مرة خرج شعب من فلسفة الانتظار حقق ذاته وحقق طموحه وشخصيته، وصار في عداد الأمم المتحضرة، بل صار الفاعل في الحياة الدنيا، وترك لنا الآخرة التي ننتظرها، وفلسفة العمل والتقدم وجدت لدى أصحاب العقائد الذين رأوا أن العقيدة فردية بين الإنسان وخالقه، وليس في ثقافة القطيع، فبعد أن أعدموا غاليليه وغيره من العلماء والمفكرين تنبهوا إلى أن الفكر الديني الإيماني ضرورة، ولكنه لا يحكم الحياة التي نحياها بتنافسية، والمجتمعات التي لها عقائدها الفلسفية الإيمانية الخاصة بها، والتي نصفها نحن أصحاب الديانات السماوية بالعقائد الوضعية، كالبوذية والكونفوشيه والزرادشتية وسواها، هذه العقائد التي لو قرأناها من وصايا حمورابي وإلى يومنا، فإننا نجدها متفقة مع الديانات السماوية في الدعوة إلى الفضائل، هذه المجتمعات لم تسعَ يوماً إلى اجتذاب أحد، ولا بأي طريقة، وتعيش حياة مسالمة فيما بينها على اختلاف المشارب والتنوع ، فلم نسمع يوماً عن حروب طاحنة بين البوذيين، ولا الكونفوشيين ولا بينهم وبين غيرهم، حتى غاندي العظيم عندما تعرض للاغتيال عفا عن المعتدي عليه قبل أن يغادر الدنيا، لأن العفو حياته وسياسته، وهذا ما حدا بكثير من الدارسين لمحاولة ضمّ غاندي إلى أفكارهم، وبأنه يؤمن بأفكارهم المتسامحة! وكأنهم يريدون أن ينتمي إلى الإسلام أو المسيحية بعد رحيله!
الحروب التي كانت بين تلك الأمم كانت حروباً عظيمة، ولكنها حروب استعمارية استغلالية وليست حروباً بينية عقيدية، وربما تعود حروب طاحنة أيضاً في المستقبل، ولكن الحروب الماضية والحروب التي قد تحدث ليست سوى حروب استعمارية واقتصادية يقوم بها الأقوياء، ولا تقوم من أجل فكر أو عقيدة، ولا بمسبب من هذه الاعتقادات.
فالحروب الصينية اليابانية والتي كانت على أشدها، واحتلالات ما تزال آثارها إلى اليوم، ولكن هذه الشعوب تتعامل تجارياً، وتعقد اتفاقات وصداقات وتحالفات، وفي كل وقت، وبعد أي حرب لم تمارس هذه الشعوب فلسفة الانتظار، ولم نسمع أدعية بالفرج، ولم يجلس الناس بمختلف المستويات للدعاء أن يفرج الله وأن ينتقم، ولم نقرأ في كتبهم أن كتاباً ما يبشر الأتباع بمختفِ سيظهر، أو بمساعدة الله للناس لينتقموا من أعدائهم.. لم نسمع شيئاً مما يمكن أن يعود لفكرة الانتظار، أو لفلسفة الانتظار، فتذكر الكتب أن إمبراطور اليابان، زار ناغازاكي وهيروشيما بعد الحرب العالمية والقنبلة النووية، وقف موقفه وقال: الأمر صعب لكننا سننهض، أو عبارة مماثلة حسب الترجمة والرواية، ولم يجلس هذا الإمبراطور لاستقبال الناس والمعونات، ولم يتسول على موائد الدول، بل قال كلمته، وبدأت النهضة، وللدكتور عبد السلام العجيلي مقال رائع عن زيارته لليابان قبل عقود، يظهر آليات نهضة اليابان كما رآها وكما رواها اليابانيون بأنفسهم لضيفهم.. بدأت البعثات العلمية الجادة جداً، والتي لم يسمح لطالب أن يخون اليابان، وعادت البعثات العلمية وقد سرقت التقانة حيناً، وأتقنتها حيناً آخر لتبدأ نهضة اليابان التي لم تنتظر طويلاً، فما بين منتصف الأربعينيات والستينيات اختصر اليابانيون العظمة والنهضة! ونسمع من محللين آراء، وهي آراء حق وصائبة، بأن الغرب وأميركا تحديداً عمل على التعويض عن الحرب لليابان بالعلم والتكنولوجيا، وهذا صحيح تماماً، لكن اليابانيين لم يجلسوا وإنما استثمروا في كل جوانب العلم والتقانة، خاصة العلم السلمي الحضاري حتى استطاعوا تربع القمة العالمية في الثقافة والحضارة والعلم، وصاروا سادة العلم وعندما يقول عربي: ما للعرب لم ينهضوا منذ أربعة عشر قرناً، ينبري الجميع لمهاجمته، ويعودون للحديث عن ابن سينا وابن فرناس والرازي، ويستنكرون عليه عدم اعترافه بالدور الحضاري للعرب من الرياضيات إلى الفيزياء والفلك!
هو لا ينكر، لكن الأمة الفعالة التي لا تعيش لغة الانتظار تنهض في عقدين! ولا يسمح للغيور على عروبته أن يستنكر طول الفترة لتمتد أربعة عشر قرناً!؟
لا ريب في أن الأمة تملك طاقات عظيمة، لكن الإرادة التي تحوّل هذه الطاقات إلى برنامج عمل عظيم تنهض به الأمة غير موجودة على الإطلاق.. وربما نسمع مستقبلاً بأمم حديثة مستضعفة قد صارت شيئاً عظيماً، ونحن ما نزال نذكر إعجاب مهاتير محمد بدمشق في الخمسينيات!! ليفعل ما يشاء، وليفق كما يشاء، لكننا لن نتنازل مطلقاً عن ثوابتنا بدخول بيت الخلاء والإسبال، فالجنة تنتظرنا!