سمحت لي الظروف وبدعوة كريمة من القائمين على الجناح السوري لزيارة معرض إكسبو ٢٠٢٠ الذي يقام مرة كل خمس سنوات، وتم افتتاحه منذ أسابيع في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك للمشاركة في «اليوم الوطني لسورية» حيث خصص لكل دولة يوم واحد، خلال الأشهر الستة المخصصة للمعرض، للاحتفال، حتى لو كان ذاك اليوم المقترح يختلف عن تواريخ الأعياد المدرجة في التقويم الوطني لكل دولة.
عندما تدخل إلى معرض إكسبو وتبدأ جولة في أرجائه، حيث تشارك ١٩٠ دولة من حول العالم، يكاد المرء يعتقد أنه بحاجة فعلاً إلى الأشهر الستة كاملة لزيارة كل الأجنحة والمعروضات، وليحضر البرامج الفنية والترفيهية التي تقام على هامشه، ويطلع على فخامة التنظيم والتصميم، ويقابل ملايين السياح الذين ملؤوا فنادق دبي وجاؤوا من مختلف بقاع الأرض لحضور هذا الحدث العالمي الاستثنائي.
جناح الجمهورية العربية السورية، الذي شيد بوقت قياسي وبتصميم سوري غاية في الروعة بشهادة كل من زاره، وعلى خلاف أغلبية الدول التي عرضت آخر ما توصلت إليه من علوم وتكنولوجيا، ارتكز في مختلف محاوره على الإنسان الذي مهد لكل الحضارات، والذي وعلى الرغم من كل التطور الهائل وثورات التكنولوجيا المتتالية وبدء الحديث عن استخدام الذكاء الاصطناعي، يبقى هو من يبني المستقبل، كما سيبقى الأساس لأي تواصل بين الشعوب والدول، وهذا فحوى معرض إكسبو ٢٠٢٠، الذي يرفع شعار: «تواصل العقول وصناعة المستقبل».
«اليوم الوطني السوري» كان مختلفاً عن كل الأيام التي خصصت لباقي الدول، فرفع العلم السوري في الساحة الرئيسية لإكسبو، وتوافد المئات بل الآلاف من السوريين طوال هذا اليوم لمشاهدة علم بلدهم والمشاركة في الفعاليات التي أقيمت، ما يدل على مدى اشتياق السوريين لكل ما يمكن أن يعيد بلدهم إلى دورها العربي المحوري ومكانتها الدولية.
فإضافة إلى حفاوة الاستقبال الإماراتي الرسمي، كان هناك الاستقبال الشعبي من السوريين المقيمين في الإمارات الذين لم يوفروا جهداً إلا وقدموه في سبيل خدمة سورية التي طالما افتخروا بالانتماء إليها، إضافة إلى وجود وفد كبير من رجال الأعمال السوريين الذين حضروا خصيصاً من دمشق لحضور «اليوم الوطني» والمشاركة في اللقاء الاقتصادي الذي جمعهم مع عدد من رجال الأعمال الإماراتيين بحضور وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية الدكتور سامر خليل، فتحدثوا بكل ثقة وفخر، مرفوعي الرأس لكونهم سوريين صمدوا وعملوا خلال هذه الحرب وتحدوا العالم، فأتوا إلى دبي وتحدثوا عن الفرص الاستثمارية ودعوا نظراءهم الإماراتيين لزيارة سورية والاستثمار فيها، وإعادة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل الحرب، بل أفضل مما كانت.
قد ينتقد البعض هذه المشاركة، ويسأل إن كان الوقت مناسباً الآن لإنفاق المال على تظاهرات كهذه، في حين تعاني سورية من حرب وحصار اقتصادي وصعوبات في تأمين احتياجات شعبها، لكن ما لا يعرفه من لم يزر هذا الجناح، هو بداية أن الدولة السورية لم تتكلف أي مال لإقامة هذا الجناح، وتكاليفه تمت تغطيتها من قبل إدارة «إكسبو» ومن خلال الشركات الاقتصادية السورية وبعض التبرعات، والأهم أن ما تعرضه سورية في دبي وأمام العالم هو باختصار «قصة انتصار» ومسير الإنسان السوري منذ مطلع الحضارات حتى يومنا هذا، ما يجعل من الجناح السوري من الأغنى ثقافياً وإنسانياً بين الأجنحة العارضة.
فأبجدية أوغاريت كانت الأساس في تواصل العقول، وأول نوتة موسيقية أسست للتواصل الروحاني كانت كذلك من أوغاريت حيث دونت أول ترنيمة منذ قرابة ٣٥٠٠ عام.
ولا يكتفي الجناح السوري بعرض التاريخ، بل عرض في ممراته الطويلة رسائل دوّنها السوريون من مختلف الأعمار والأجناس والأديان والطوائف تحمل جميعها رسالة أمل ومحبة وتسامح، وكأنها تنذر العالم بضرورة ألا يتخلى عن إنسانيته وعن القيم، التي وحدها ستكون قادرة على صناعة مستقبل مزدهر لأطفال البشرية جمعاء.
إن وجود الجناح السوري في أهم محفل دولي منذ سنوات وخاصة بعد جائحة كورونا يحمل رسائل عدة، أهمها أن الرهان يبقى على الإنسان وقيمه وأخلاقه.
هو جناح يحكي قصص البطولات والتضحيات السورية التي على مدار عشر سنوات قاتلت من أجل الحفاظ على تراث سورية وتراث البشرية جمعاء، إنها قصة انتصار الحضارة على قوى الظلام وقصة كل سوري لم يتردد لثانية في الدفاع عن هويته وتاريخه.
في القسم التجاري، يلاحظ الزوار صناعات، صمدت وتحدت ولا تزال، الحصار، وسيلتقون برجال أعمال رفضوا كل الإغراءات فكانوا مثل أغلبية الشعب السوري متشبثين بالأرض يمارسون أعمالهم ولو في أحلك الظروف.
هو جناح العزة والكرامة، وجناح يمكن لكل سوري أن يفتخر بوجوده لكونه جناحاً يمثله ويمثل أجداده، ويزرع الأمل بمستقبل أفضل ليس لسورية فحسب بل للبشرية جمعاء التي لو تعلمت من السوريين قيمهم لصنعت المعجزات، كما صنع كل سوري خلال هذه الحرب، ولا يزال.
سورية كانت البداية، وهي الحاضر والمستقبل، وكل الشكر لكل من ساهم وتبرع وعرض، وخصص من وقته ومن ماله لإقامة هذا الجناح الذي يروي قصتنا ويخلد ذكرى أبطالنا ويعيد سورية إلى مكانتها الدولية بين الدول وبين الشعوب كمثال يحتذى في التصميم على صناعة مستقبل مبني على قيم البناء، لا التدمير، المحبة لا الكراهية، وكل ما من شأنه أن يبني إنساناً متمكناً وقادراً على التواصل مع الآخر من دون التدخل في شؤونه.