ما انفكت الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أتمت سنتها السادسة والسبعين هذا العام، تحاول إثبات مشروعية بقائها ككيان، لربما بات وحيداً، مما يمكن الركون إليه للمرافعة أمام «قوسه» عبر تقديم الوثائق والأدلة التي تثبت الحقوق المنهوبة للشعوب، لاستصدار قرارات من شأنها أن تبقي تلك «الأحقية» تجول في الذاكرة الجمعية المثقلة بالكثير لهذا العالم الذي يراد له أن يكون بلا ذاكرة، لكن من دون أن تستطيع القرارات الصادرة عنها تحصيل تلك الحقوق، أو إعادتها إلى أصحابها الشرعيين، ولربما كان ذلك يمثل علة في التكوين لكيان حظي ميثاقه على توافق كل دول العالم الخارجة في حينها من حرب مدمرة لعل الفعل يكون مانعاً لحدوث نظيرة لها، والتي إن حدثت فلسوف تكون سابقتاها أشبه بلعب الأطفال النارية، والشاهد هو أن القرارات الصادرة عن تلك المنظمة كانت تمثل رأس هرم القانون الدولي الذي تشير بوصلته دائماً إلى اتجاه «الحق» لكن دونما وجود «دائرة للتنفيذ» ملحقة به تكون كفيلة بوضع تلك القرارات موضع التنفيذ.
لم تكن الأمم المتحدة على امتداد سنيها كياناً يصلح لفض الصراعات أو لإيصال الحقوق لأصحابها، كانت فقط منبراً تشرح من عليه المظالم ومتنفساً يعمد من خلاله «المظلومون» إلى المطالبة برد الظلم عنهم، فقرارات الجمعية العامة، التي وصل عديد أعضائها بعيد تفكك الاتحاد السوفييتي العام 1991 إلى 193 دولة، غير ملزمة وهي لا تعدو أن تكون أكثر من «صكوك ملكية» ستجد طريقها إلى أرشيف بات متخماً بنظائرها بانتظار أن تتغير المعطيات، أو التوازنات، التي تجعل من نفاذها أمراً ممكناً، بل حتى ولو قدر لتلك القرارات أن تصدر عن وليدها المصغر الذي يطلق عليه اسم مجلس الأمن، والذي جاء في تكوينه تعبيراً عن سطوة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية التي سبقت خروجه إلى الوجود، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تصبح تلك القرارات نافذة، فالأمر، أي وضع القرارات موضع التنفيذ من عدمه، يبقى رهين التوافقات وتلاقي المصالح، أو رهين التوازنات القائمة، لنجد قرارات مثل 242 للعام 1967، و338 العام 1973 الخاصين بالصراع العربي الإسرائيلي غير قابلين للتنفيذ حتى بعد مرور أكثر من نصف قرن على صدورهما، في حين سيلقى القرار 1973 للعام 2011 الخاص بغزو ليبيا طريقه إلى التنفيذ بعد أيام فقط على صدوره.
صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي لا تزال تشكل الهيئة العليا العالمية المختصة بالنظر في المسائل السياسية الخاصة وشؤون إنهاء الاستعمار، يوم الثلاثاء 10 تشرين ثاني الجاري على أربعة قرارات تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، أدان الأول منها عمليات الاستيطان والأنشطة المتعلقة به، إضافة إلى إدانة الممارسات المتعلقة بحقوق الإنسان الفلسطيني وسواه من السكان العرب القاطنين في الأراضي المحتلة، في حين عبر الثاني عن دعمه للاجئين الفلسطينيين وللدور الذي تضطلع به «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – أونروا» المنوطة بتحسين مستوى المعيشة لدى هؤلاء، ليذهب الثالث نحو التأكيد على ممتلكات اللاجئين الفلسطينيين وضرورة الحفاظ عليها، أما الرابع فقد كان للتأكيد على السيادة السورية على هضبة الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ حزيران 1967، مع التأكيد على وجوب عودتها إلى تلك السيادة.
ما يلاحظ على الخرائط التي ترسمها عمليات التصويت على القرارات سابقة الذكر والتي أصبحت تقليداً سنوياً تسعى الجمعية العامة من خلاله إلى تأكيد دورها كـ«حارس» لحقوق الشعوب، هو اتساع الفضاءات الدولية الداعمة لتلك القرارات، فالأول منها حظي بتأييد 143 دولة مماثلاً بذلك التأييد الذي حظي به الثاني، ومقارباً الرابع الذي زاد الاثنين بصوت واحد، في حين كان نصيب الثالث هو الأكبر بعد أن حظي بتأييد 165 دولة، ليسجل الخط البياني الذي ترسمه عملية التصويت آنفة الذكر ارتفاعاً طفيفاً من النوع المتصاعد إلى الأعلى، وما يمكن استقراؤه جراء ذلك المشهد المرتسم كثير، لكن الأبرز منه يتمحور حول «صمود»، إن لم يكن تنامي، المناخات التي استولدتها نهاية الحرب العالمية الثانية فقادت إلى تصفية الاستعمار المباشر، ونهاية عصر المستعمرات، من دون أن يعني ذلك تمام المهمة التي لا يزال اكتمالها مرهوناً بتصفية الجيوب التي لا يزال بعضها جاثماً في بعض المناطق، ولربما كان الأبرز منها ذلك «الجيب» المتموضع على الأرض الفلسطينية، والذي يشكل نقطة استناد أساسية لباقي الجيوب التي تستمد جذوة حضورها، وعوامل استمرارها، من الحيوية التي يبديها الأول، حتى ليصح التأكيد أن بقاءها مرتبط، وإلى حد بعيد، ببقاء هذا الأخير.
نقطة أخرى يمكن لحظها في سياق ارتسام المشهد سابق الذكر، وهي تتمثل في ذهاب دول «الموجة الثالثة» من موجات التطبيع مع كيان الاحتلال إلى تأكيد مواقفها السابقة لهذا الفعل الأخير عبر التصويت لمصلحة القرارات الأربعة، والفعل من حيث النتيجة إيجابي بل ومن الجائز القول إن قرار تلك الدول القاضي بإقامة علاقات طبيعية مع دولة الاحتلال ستكون صيغته، التي لم تتحدد بعد بشكل نهائي، مرهونة بمدى انصياع الأخيرة لقرارات الشرعية الدولية، والإيجابية في كلا الحالتين السابقتين تتأتى من المناخات المتولدة جراءهما، إذ لطالما كان من المؤكد أن المناخات السياسية المحيطة بأي صراع تلعب بالضرورة دوراً حاسماً في النتائج التي سيفضي إليها، نقول ذلك إيماناً منا بأن «الصراع» سيظل قائماً مهما تتالت جولات التطبيع التي يمكن لها أن ترسي لسلام الحكومات بعيداً عن سلام الشعوب التي تدرك البعد الحضاري – الهوياتي في صراعها الذي تخوضه مع كيان يمثل رأس حربة متقدم لمشروع يرمي إلى تذويب ذينك البعدين.