ثقافة وفن

جبران وصياغة قصص المقدس الروحي

| إسماعيل مروة

مريم المجدلية، مريم والتطهير، وقضايا عديدة ذات مساس بالنص المسيحي المقدس،اطّلع عليه كثيرون من أبناء الدين المسيحي، وجهله كثيرون وفسّره آخرون كما يشاؤون، وما عدا ذلك بقيت هذه القصص يتم تداولها من غير المسيحيين جزافاً، أو ظلماً، وحين صاغ جبران هذا الروحي صاغه بروحه الشفافة المليئة بالحب للإنسان والمقدس على السواء وبروح أقرب إلى القصّ يقدّم جبران اللقاء الأول الذي كان بين يسوع ومريم المجدلية، وبروح شفيفة واقعية تدخل في تفصيل الروح وشغافها، وما يعتلج في النفس الإنسانية من خفايا ورغاب، ورهبة في موضع الحب والمقدس.

مريم المجدلية اجتماعها بيسوع لأول مرة كما يراها جبران

رأيته لأول مرة في شهر حزيران، كان يمشي بين الزروع عندما مررت مع جواري، وكان وحيداً، وكان انتظام وقع خطواته على الأرض مختلفاً عن جميع الرجال، وحركة جسمه لم أرَ مثلها قط في حياتي.

إن الرجال لا يمشون على الأرض كما مشى هو. وإلى هذه الساعة لا أدري إذا كان يسير بسرعة أو ببطء.

وكانت جواري يشرن إليه بأصابعهن ويتهامسن فيما بينهن والحياء يخيم فوقهن. أما أنا فوقفت لحظة ورفعت يدي لأحييه. ولكنه لم يلتفت، ولم ينظر إلي. فأبغضته جداً، وشعرت بأن الدم يجمد في عروقي من شدة الغيظ، وفارقتني حرارة جسدي حتى صرت باردة كأنما أنا في عاصفة من الثلج هوجاء، وكنت أرتجف بكليتي.

وفي تلك الليلة رأيته في منامي، وقد أخبروني فيما بعد أنني كنت أصرخ صراخاً شديداً في نومي، ولم أعرف طعم الراحة في فراشي في تلك الليلة.

ثم رأيته ثانية في شهر آب، وكان ذلك من خلال نافذتي. فكان جالسا في ظل سروة أمام بستاني، وكان هادئا كأنه تمثال منحوت من الحجارة، كالأنصاب التي رأيتها قبلا في إنطاكية وغيرها من مدن الشمال.

في تلك الدقيقة جاءت خادمتي المصرية وقالت لي: إن ذلك الرجل هو هنا ثانية، وهو جالس هنالك أمام بستانك.

فحدقت إليه طويلاً، فارتعشت نفسي في أعماقي لأنه كان جميلاً. كان جسمه فريداً، وقد تناسبت أعضاؤه، حتى خيل إلي أن كلاً منها مسحور بحب رفيقه. وفي الحال لبست أفخر أثوابي الدمشقية، وتركت بيتي وسرت إليه.

هل دفعتني وحدتي أم طيب شذاه حملني إليه؟ وهل مجاعة عيني الراغبة في الجمال، أم جماله الذي كان يفتش عن النور في عيني؟

إنني حتى الساعة لا أعلم.

مشيت إليه بأثوابي المعطرة وحذائي الذهبي، الذي أعطانيه القائد الروماني، نعم ذلك الحذاء بعينه! وعندما وصلت إليه قلت له: انعم صباحاً.

فقال: نعمت صباحاً یا میریام.

ثم نظر إلي، فرأت فيّ عيناه السوداوان ما لم يره رجل قبله، فشعرت فجأة كأني عارية وخجلت في ذاتي.

بيد أنه لم يقل سوی: نعمت صباحاً.

حينئذ قلت له: أفلا تريد أن تدخل إلى بيتي؟ فقال: أما أنا الآن في بيتك؟ – إني لم أعلم ما عناه آنئذ، ولكنني أعلم الآن. فقلت له: أفلا تريد أن تشرب الخمر وتكسر الخبز معي؟ فأجاب: نعم يا ميريام، ولكن ليس الآن.

ليس الآن، ليس الآن، هكذا قال لي، وكان صوت البحر في هاتين الكلمتين، وصوت الريح والأشجار. وعندما قالهما لي تكلمت الحياة مع الموت.

فاذكر یا صاح ولا تنس أنني كنت ميتة. فقد كنت امرأة طلقت نفسها. وكنت أعيش بعيدة عن هذه الذات التي تراها الآن. فقد اختصصت بجميع الرجال، ولم أختص بأحد، فكانوا يدعونني عاهرة، وامرأة فيها سبعة شياطين. كنت ملعونة من الجميع ومحسودة من الجميع.

ولكن عندما نظر فجر عينيه إلى عيني غابت جميع كواكب ليلي وصرت میریام، میریام فقط، امرأة ضاعت عن الأرض التي عرفتها ووجدت نفسها في أماكن جديدة.

ثم قلت له ثانية: هلم إلى بيتي وشاركني بخمرتي وخبزي. فقال: لماذا تلحين عليّ أن أكون ضيفك؟

فقلت: أتوسل إليك أن تدخل إلى بيتي. وكان كل ما بي من الأرض وكل ما بي من السماء يناجيه ويدعوه ويطلبه.

حينئذ نظر إلي، فأشرقت ظهيرة عينيه على روحي، وقال: إن لك كثيرين من المحبين، بيد أنني أنا وحدي أحبك، فإن بقية الرجال يحبون أنفسهم في قربك، أما أنا فأحبك في نفسك. إن بقية الرجال ينظرون فيكي إلى جمال يذوي قبل انتهاء سنيهم. أما الجمال الذي أراه أنا فيكي فإنه لن يزول، وفي خريف أيامك لن يخاف ذلك الجمال أن ينظر إلى ذاته في مرآة، ولن يقدر أحد أن يعيبه.

أنا وحدي أحب ما لا يرى فيكي..

ثم قال بصوت واطئ: امضي في طريقك الآن. وإذا كانت هذه السروة لك ولا تريدين أن أجلس في ظلها، فأنا أيضاً أسير في طريقي.

فتوسلت إليه بدموع قائلة: يا معلم، ادخل إلى بيتي. إن لدي بخوراً أحرقه أمامك، وطستاً من الفضة لغسل قدميك. أنت غريب ولكنك لست بالغريب، لذلك أتضرع إليك أن تدخل إلى بيتي..

في تلك اللحظة وقف ونظر إليّ كما تنظر الفصول إلى الحقل وتبسم وقال ثانية: إن جميع الرجال يحبونك لأجل ذواتهم أما أنا فأحبك لأجل ذاتك.

قال هذا وسار في طريقه.

ولكن ما من رجل مشی مشیته قط. هل ولدت في بستاني نسمة علوية ثم سارت إلى الشرق؟ أم هي عاصفة جاءت تزعزع كل شيء لترده إلى أسسه الأصلية؟

إنني لم أعلم. ولكن في ذلك اليوم ذبح غروب عينيه الوحش الذي كان فيّ، فصرت امرأة، صرت میریام، مريم المجدلية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن