يشير سجل سياسة التوسع الأميركية في عقد التحالفات الثنائية وجمع الحلفاء في أحلاف إقليمية تحت إدارتها منذ فترة الحرب الباردة 1949-1990 إلى عجز واضح في استعادة دول تحالفت معها واشنطن ثم ثارت الشعوب عليها وأنهت هذا الشكل من الهيمنة الأميركية، فقد فقدت الولايات المتحدة هيمنتها على مصر عام 1954 وتلا ذلك سقوط حلف بغداد البريطاني الأميركي في الخمسينيات فخسرت العراق ثم إيران عام 1979 وتحررت الجزائر من الاستعمار وحافظت سورية على استقلالها وبقيت مناهضة للهيمنة الأميركية وسياسة أحلافها.
ومع اختلال ميزان القوى الإقليمي لمصلحة حركة التحرر العربية التي قادتها مصر وسورية في الخمسينيات والستينيات، ازداد الاعتماد الأميركي على الحليف الإسرائيلي فنفذ وظيفته لمصلحة الولايات المتحدة وبمشاركتها العدوان الإسرائيلي الأميركي على مصر وسورية والأردن في حزيران 1967 لتصفية هذا الدور القومي المتصاعد في المنطقة لكن هذا العدوان وما نتج عنه من احتلال لأراض مصرية، وسورية، وفلسطينية كانت تابعة للأردن، لم يحقق الاستقرار وعوامل ضمان المحافظة على وجود إسرائيل في العقود التالية فقد واجهت إسرائيل حروب استنزاف منذ احتلالها لكل هذه الأراضي على جبهات أربع، جبهة مصر وجبهة الجولان وجبهة نهر الأردن وجبهة داخل الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم تكن قوتها البشرية قادرة على الانتشار الفاعل والتصدي المجدي بعد أن دفعت ثمناً باهظاً من الخسائر البشرية خلال ثلاث سنوات منذ عام 1967 إلى 1970 وفقدت حرب حزيران معناها كإنجاز إسرائيلي سيحقق الاستسلام فطلبت من واشنطن التدخل للتوصل إلى هدنة ريثما تعيد حساباتها وأنقذتها واشنطن باتفاق لوقف نار حمله وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز عام 1970 واعداً بتطبيق إسرائيل للانسحاب، فحصلت إسرائيل بذلك على فرصة تمكنت خلالها بالتخلص من جبهة شرقي الأردن بعد أيلول 1970 ونتائج الصدام المسلح بين فصائل منظمة التحرير والجيش الأردني التي أدت إلى خروج تلك الفصائل من ساحة الأردن، وماطلت إسرائيل بمسألة الانسحاب إلى أن فوجئت بحرب تشرين من الجبهتين المصرية والسورية.
رأى الكثيرون من القادة والمفكرين الإسرائيليين في نتائج حرب حزيران، بعد كل التطورات التي شهدها الكيان الإسرائيلي، معضلة ولدت المزيد من التحديات ولم تحقق التسويات المطلوبة، ولم تعد تلك الحرب تشكل بنتائجها المتعاقبة إنجازاً أو انتصاراً لها أو للولايات المتحدة التي بدأت تشعر عن عدم قدرتها على ضمان استمرار وجود هذا الكيان والحاجة إلى وظيفته طالما أنه عجز عن تحقيق أهدافها الإستراتيجية في المنطقة وتحول إلى عبء واضح عليها حتى بعد اتفاقية كامب ديفيد وخروج مصر من الصراع واتفاقية أوسلو وغيرها، فمن الوسط داخل فلسطين المحتلة ومن قطاع غزة ومن الشمال، ما تزال جبهات المقاومة تشكل تحديات لم تتمكن إسرائيل من التخلص منها لمصلحة الولايات المتحدة وهذا ما يشير إليه بروفيسور العلوم السياسية في جامعة «هارفارد» ستيفين والت في العمود الذي نشره في مجلة «فورين بوليسي» الأميركية في 27 أيار الماضي تحت عنوان «حان وقت إنهاء العلاقة الإستراتيجية مع إسرائيل» حين ذكر أن «دوامة الاشتباكات العسكرية لم تتوقف مع قطاع غزة ولا مع سورية برغم تكرار اتفاقات وقف النار مع فصائل قطاع غزة».
وأضاف: «هذا من شأنه تقديم دليل للولايات المتحدة بعدم الحاجة إلى تزويد إسرائيل بالدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي غير المشروط، فقد أصبحت الفوائد التي تحصل عليها الولايات المتحدة من إسرائيل صفراً، في حين تزداد الكلفة ارتفاعاً ولذلك يجب تحويل العلاقة الخاصة مع إسرائيل إلى علاقة عادية، فالولايات المتحدة تدفع ثمناً أخلاقياً جراء دفاعها عن السياسة الإسرائيلية».
وإذا كان من الطبيعي أن توظف الولايات المتحدة سياساتها وجيوشها لتحقيق مصالحها، فإنه من البدهي أيضاً أن تقوم بمراجعة هذه الوظيفة حين يخفق جيشها أو حلفاؤها بتحقيق هذه المصالح المطلوبة وقد تتجه هذه المراجعة إلى اتخاذ قرار بالتخلي عن حليف أو بتخفيض قيمته أو بالتخلي عن حكومة حليفة مثل حكومة أفغانستان وجيشها بعد عشرين عاماً من التحالف معها، وهذا ما فعلته حين أصبحت حماية سايغون عبئاً عليها في فيتنام الجنوبية، وهذا ما سوف تفعله مع تايوان التي تطالب الصين باستعادتها ما دامت حمايتها ستعرض الولايات المتحدة إلى حرب نووية مع الصين بموجب ما ذكرته بعض مراكز الأبحاث الأميركية، ولذلك يتوقع الكثيرون بأن الواقع الذي ولدته حروب إسرائيل لا يوجد فيه ما يبشر باستقرارها وبقائها وخاصة بوجود جيش الاحتلال الذي يحكم سبعة ملايين فلسطيني من أصحاب الأرض والوطن، كما أن إسرائيل لم يعد في مقدور جيشها حماية حدوده وجبهته الداخلية فما بالك بحماية هذه الدولة أو تلك في الشرق الأوسط الذي نشرت فيه الولايات المتحدة خلال عقدين أكثر من 350 ألفاً من قواتها لحماية مصالحها وحلفائها فيه!؟ علماً أن جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يستطيع الاحتفاظ بمثل هذا العدد لعشرة أعوام في حالة استنفار وليس لعشرين عاماً.