الأمهات يلدن، اللحود تلتهم الصالح والطالح، لأن الموت ضرورة وحقيقة تحتاجها الحياة، من دونه كيف كنا؟ تفكروا ملياً في ذلك لو أنه لم يكن، الجهات الأربع لا بد أن يكون لها مركز، منه يجب أن تنطلق العدالة والمساواة إلى من يحزنه ذبول الأزاهير، لأنه يشاهد في ذبولها ترنّح الحياة، وإلى من يخيفه قصف الرعود التي تعيد إلى ذهنه ذاكرة الحروب والزلازل والبراكين ومخلفاتها، إلى من يرهف أذنيه وأحاسيسه لخشخشة العبودية، تجرُّها الأقدام الدامية في سيرها إلى غياهب السجون، أو نحو أعواد المشانق، إلى من يحسن حبك القوافي وسبك الألفاظ، ويجيد سياسة الرعية والخيول، إلى من يحرق نفسه بخوراً فوق محاريب البشرية لينير تلك الأرواح العامهة في دياجي آلامها وجهلها وتخلفها، هذه التي تنجب لها الأحلام والأوهام، إلى من يبرر أعماله أمام الإله معتقداً أنه سيسامحه قبل أن يعترف للآخر، وإلى من يشفق على الخاطئين ويعطف حتى على الشيطان المسكون في داخله، إلى من يؤيد حزب الإنسانية الذي يقوده إنسان، إلى من لا يحس بالسعادة، من دون أن يشعر بآلام الآخرين، أتحدث بشغف الانتصار على الخطيئة والمصالحة مع الحياة، إنه الشرق صاحب البلاد المسحورة بالآلهة والنبوات والسحر والشعوذة إلى جغرافيتها ذات المناخات الجميلة والوحي البهي المتواصل الذي يتمسك به أبناؤها حتى اللحظة.
الشرق مزيج من نوازع متباينة كونفوشوسية زرادشتية إغريقية ميتافيزيك أسطوري وإيمان بالطبيعة، يقدمه أبناؤه ضمن أحاسيس دينية عميقة، يربطها في اللا وعي بمظاهر الوجود، وكأنه في وحدة كيانية واحدة، وفي الوقت ذاته منفصلة، وكل تجده له هواه، عالمه قائم من المثل الرفيعة، حيث الحقائق متلاحقة، يغزوها الغموض، ويغلب منه الإبهام على الوضوح، يسبغ الجلال على كل شيء ناصراً ما يخفيه على ما يظهره.
متى يمتطي المشرقي صهوات النصر؟ ومتى سيأخذ من الفجر أشعة شمسه، كي يمسك بلجام شروقها الذهبي، ولا يدعها تذهب إلى الغرب، فليس من العدل أن يبقى الشرق رهينة للغرب، ولا الجنوب عبداً للشمال، يسومونهم بجميع أنواع الذل والهوان، الشرق الذي قدم مانحاً للغرب تعاليم الروح الخالدة وفنون الجمال النقي ومصادر الوجود والبقاء، ليقابله الغرب بنظرات السخرية والاحتقار واستلاب موارده وقواه، فمتى يستيقظ الغرب من نشوته العمياء، ويعيد بعضاً مما استلبه، وأسهم في إعادة إعمار ما دمره؟ وإلى الشرق أقول: متى ستنهض من كبواتك، وتبتعد عن تقديم أرضك ورقاب أبنائك وخبراتك وخيراتك له؟ بدلاً من حمايتها وتحصينها والبناء عليها والانتفاع بها والقضاء على ذئاب أقوامك، الذين يعتبرون أنفسهم رعاته المختبئين خلف بحور السياسة وصخب الأديان وغضب الآلهة، المتكالبين على المال، الرافضين شراء الحياة الهادئة الوادعة بعرق الإنسان الطيب والأمين.
من يعمل ليكون جسراً نوعياً بين العالم القديم والعالم الجديد؟ من يسعى لخلط الغرام بالأدب، والتاريخ بالحاضر، والقديم بنزعات الثورة على التخلف من أجل إضاءة يوم جديد يحمل العلم والتطور والحب، بدل الخوف والكراهية؟ كيف يكون التسامح الذي ينهي العداوة؟ كيف يستعبد الإنسان أخاه الإنسان، ومن أجل ماذا؟
ما الأهداف العظيمة التي نظمتها الآلهة المطلة على الشرق، وطالبت أبناءه بالتمتع بها؟ هل من أجل السيطرة على الأرض؟ أم من أجل شكم أنفسهم بالحكمة والأخلاق؟ ها هو ذا العالم أمامنا بقممه وسفوحه ووهاده ومهاده وعذابه وثوابه حقائق ملموسة، أوصاف واقعة نشاهدها في حياتنا، هذه الأوصاف بكل ما فيها من ألم وأمل كيف بها تستحيل إلى حياة مادية بحتة، أدواتها استعباد الآخر، كيف بها تلبس لبوس الحياة الروحية، تخلعها عندما تريد، وتلبسها حينما تشاء، من دون أن تأخذ بجمال قيمها وسلوكياتها الحسنة، ليظهر منها الخصام والجدل والنزاع بلا وازع ولا خجل، وهذا العالم الذي لم يعد عالماً كبيراً، بل غدا في العقل المادي ضيق الرقعة محدود المساحة، آفاقه ضئيلة المدى، وكأن ما يحيط به يؤدي أعمالاً إضافية مجبراً عليها من أجل استمراره، لا من أجل حياة البشر.
الغرب باختصار استلب الشرق بعد أن استكشفه، واستشرقه كل شيء، إلا الروح تركها له محدثاً فيه، ومن خلاله الحروب والانقسامات والتنازع بسبب أو من دون سبب على صغائر الأمور، يتدخل متى شاء، ويرمي بالحلول المؤقتة لا النهائية.