يؤلمني أن يرشقني أحدهم بتلك النظرة المواربة التي تمتزج فيها خيبة الأمل بالتأنيب عندما لا أجيب على سؤال طرحه علي! وهرباً من نصل تلك النظرة قد تسوِّل لي نفسي أحياناً أن أبدي رأياً في مواضيع لست محيطاً بها. صحيح أنني أحتاط للأمر، فلا أدعي الإحاطة بالموضوع، بل أورد كلامي على أنه مجرد رأي، والرأي على حد قول الفيلسوف أفلاطون (427-347 ق. م) هو «شيء وسط بين العلم والجهل». غير أني عندما أفعل ذلك أتخيل أستاذي الأديب الساخر الكبير جورج برنارد شو (1856-1950) وهو يهز سبابته في وجهي قائلاً: «انتبه، ادعاء المعرفة أشد خطرا من الجهل».
والحق أن أخطر سؤال طرح عليَّ منذ بدء الحرب التي تشنها الفاشية على وطننا السوري هو: «لماذا حدث ما حدث؟ ومن أين جاءت كل هذه الشرور»؟ ونظراً لأن هذا السؤال- اللغم ما يزال يطرح علي، سأروي لكم حكايتين على أمل أن تجدوا أنتم الجواب من خلالهما.
لست أذكر متى سمعت الحكاية الأولى، كما لا أذكر أحداثها بدقة، لذا سأرويها لكم بطريقتي: وصل إبليس وتلميذه إلى قرية مسالمة، وبينما كانا يسيران في دروب تلك القرية رأى إبليس حماراً مربوطاً في سياج أحد البيوت فقام بفك رباطه، سأل التلميذ أستاذه إبليس عن سبب ما قام به فأجابه قائلاً: «راقب ما سيجري يا بني كي تتعلم صنعة الشيطنة على أصولها».
انطلق الحمار إلى بستان بيت قريب وراح يفسد مالا يأكله من الخضار المزروعة أمام بيت الجيران. كانت الجارة منهمكة في طهي وجبة الغداء، لذا لم تنظر إلى الخارج إلا بعد أن أتى الحمار على كل مزروعاتها. جن جنون المرأة فتناولت بندقية الصيد من غرفة زوجها وأطلقت النار على رأس الحمار!
خرج الجار عقب سماعه لإطلاق النار، ولما رأى حماره غارقاً بدمه انكفأ الى بيته وأحضر بارودته وأطلق النار على زوجة جاره فأرداها صريعة. عاد زوج المرأة ليجدها قتيلة، فهاجم بيت جاره وقتله هو وزوجته وأولاده. وصل الخبر لأقارب الجار في قرية مجاورة، فهجموا وقتلوا زوج المرأة وكل أولاده وأحرقوا بيته. تنادى أقارب زوج المرأة في قرية أخرى لأخذ الثأر، وقاموا بغزو قرية أقارب الجار فأحرقوها وقتلوا كل من فيها. انتقلت أعمال الثأر من قرية إلى قرية وانتشرت الجثث والحرائق في كل مكان. نظر تلميذ إبليس إلى أستاذه قائلاً بإعجاب: كيف تمكنت من فعل كل هذا يا أستاذي؟ فقال إبليس: «إذا أردت أن تصنع كارثة يكفي أن تفك رباط الحمار»!
الحكاية الثانية جرت معي. توجد فجوة صغيرة في جدار شرفة غرفتي في القرية، يقوم عصفور دوري أحمق كل عام ببناء عشه فيها، وعندما تفقس البيوض ويكبر الفراخ يضيق المكان عليهم ما يؤدي غالباً لسقوط أحدهم قبل اكتمال قدرته على الطيران. ذات يوم خرجت إلى الشرفة، فوجدت عليها عصفوراً صغيراً ميتاً. دخلت إلى البيت لإحضار الرفش والمكنسة، فجاءني اتصال بضرورة السفر إلى دمشق، ونسيت أمر العصفور. عدت بعد حوالي أسبوع لأجد أن العصفور قد تحول إلى كتلة من الريش والديدان. دخلت لإحضار الرفش والمكنسة، لكنني نسيت الأمر مرة أخرى إذ جاءني ضيوف. وعندما خرجت إلى الشرفة بعد أيام لم أجد من العصفور إلا الريش!
نعم تلك هي المعضلة: يأتي الشر من الخارج عندما تفلت الحمير، ويأتي من الداخل عندما تضعف مناعة الجسد الحي أو تزول، عندها تتحرر ديدان الحماقة وتأكل الجسد الذي كان وطناً لها، ثم تأتي عصافير جديدة لتأكل تلك الديدان!