كلما انطفأت من حولها نيران، عليكم بإشعال الأخرى، هكذا يبدو منهج التعاطي الأميركي خصوصاً والناتوي عموماً مع روسيا.
في الوقت الذي كان فيهِ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يرعى اتفاقاً بين كل من أذربيجان وأرمينيا يُنهي بشكلٍ تدريجي حالَ الحرب بين البلدين، عبرَ إعادةِ ترسيم الحدود وإحياء التبادل التجاري لتستعيد منطقة جنوب القوقاز حالَ السلام المفقود، كان هناكَ من يحاولَ من جديدٍ إِشعال النيران على الحدودِ الروسية مع أوكرانيا.
«كل الخيارات ضد روسيا مطروحة» هذا ما قالتهُ مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون أوروبا وأوراسيا كارين دونفريد تعقيباً على تقاريرَ تحدثت عن حشودٍ روسية وُصِفت بغيرِ المسبوقة على الحدود مع أوكرانيا. هذه العبارة غالباً ما يستخدمها الأميركي عندما يريد إعطاء حلفاءَ لهُ في هذه الدولة أو تلك دفعة معنوية للوقوف بوجه من تصنَّفهم كأعداء لها، سمعنا هكذا كلام مراراً دعماً لثوار الناتو في سورية وفنزويلا واليوم لمن تدفعهم للوقوف بوجهِ روسيا في أوكرانيا.
منذ اندلاع ما يسمى الثورة البرتقالية الأوكرانية في عام 2004 والتي كانت أهدافها حسبَ داعميها إنشاء سلطة ديمقراطية في البلاد تتحرر من التبعيةِ لروسيا وبناء هيئات إدارية بعيدة عن الفساد والمحسوبيات، وهذا البلد يتأرجح في الفوضى بعد دخولهِ مرحلةَ استقطابٍ بين من يراه حديقة خلفية عليهِ ألا يخرج من بيت الطاعة الروسي ولو بالحدِّ الأدنى، وبين من يراهُ خاصرة رخوة لروسيا يمكن العبث فيها كلما أرادَ «ناتو» إزعاج خصمه اللدود.
قبل سقوط نظام الرئيس فيكتور يانكوفيتش المتهم بالولاء لروسيا والذي هرب خارج البلاد بعد اندلاع الاحتجاجات، كان الروس ينظرون بالكثيرِ من الاهتمام للحالةِ الأوكرانية تحديداً بعد الدرس الذي تلقوه في جورجيا، على هذا الأساس كان من الطبيعي أن يحصل هذا البلد على الكثير من الامتيازات الروسية، إن كان لجهةِ الحماية غير المباشرة، أو لجهةِ التسهيلات الاقتصادية تحديداً بما يتعلق بعمليات شراء الغاز الروسي بأسعارٍ مخفّضة والذي يُعد الشريان الحيوي لبلد الصقيع.
عشية الحراك في العام 2013 وعلى طريقة تبييض صفحة الربيع العربي عبر الإعلام المتصهين، كان هناك من يريد أن ينقل وجهة نظر واحدة عن كل ما يجري، هي لعبة الإعلام التي أظهرت الساحات الغاضبة من النفوذ الروسي دون أن تشرح كيف سيكون الحال بدون هذا النفوذ الروسي، أظهرت المعترضين على ما تريده روسيا من أوكرانيا، لكنها تجاهلت ما تقدمه روسيا لأوكرانيا، وجهة النظر تلك أرادها الناتو بعبارةٍ واحدة: مشاكلنا كأوكرانيين كلها من الوصاية الروسية، وعلى أوكرانيا أن تخرج مطالبة بالانعتاق من هذه الوصاية.
بالتأكيد نتفق مع طموحات كل شعب يخرج ضد أي وصايةٍ عليه، لكن فيما يبدو حتى يومنا هذا وكأن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، نجح التحريض الإعلامي بالوصولِ إلى هدفه، لكن ما جرى أن أوكرانيا فيما يبدو خرجت ولم تعد، فتحولت الأزمة إلى أزمات، من وجود انفصاليين موالين لروسيا وصولاً إلى التضخم وأزمة الطاقة، والناتو يتابع وكأنه بريء كبراءةِ الذئب من دمِ يوسف، فلا الوعود الأوروبية صدقت بدعم البلاد اقتصادياً أو حتى عبرَ تمرير دخولها المنظومة الأوربية بل هناك من يتجاهل أساساً أن الأوربيين كالأوكرانيين هم تحت رحمةِ الغاز الروسي، ولا الولايات المتحدة صدقت عندما أكدت نيتها الدفاع عن وحدة الأراضي الأوكرانية والنتيجة كما هي ماثلة أمامنا في الكثير من النماذج التي اختارها الناتو لتكون ساحةَ صراعٍ مع الروس: الفوضى.
منذ اندلاع ربيع الدم العربي وتحول المظاهرات التي تطالب بالحقوق والديمقراطية كما روج لها منظروها إلى مظاهراتٍ مذهبية تنادي بمبدأ جئتكم بالسيف أو المبايعة، هناك من ربطَ بين فكرة الجهل والتخلف والتمذهب الذي تعيشهُ المجتمعات العربية، ونزوع المظاهرات فيها نحو ما يدعم هذا الجهل لا نحو بناء دولة ديمقراطية. هناك من حمَّل السلطات مسؤوليةَ هذا التحريض بهدف «سرقةِ الثورات»، مصطلح وتبريرات سمعناها وقرأناها لمن يقدمون أنفسهم كـ«نخبٍ» عربية تُحاضر بنا من أبراجها العاجية، كل هذه الأكاذيب والتبريرات التي ساقها هؤلاء كان هدفها تبرئةَ هكذا مظاهرات من الهدف المرسوم لها أساساً وبتعبيرٍ آخر: لا يمكن لأي سلطة مهما بلغ بطشها أن تقفَ بوجه إرادةِ شعب عندما تكون انتفاضته نابعة من رحمِ معاناته، وليست نابعة عن تحريض هنا وأكاذيب هناك. هذه الثورات فشلت لأنها أساساً لم تنبع عن معاناة حقيقية، هي ببساطة ثورات أرادها الغرب وقوداً لإحراق الدول التي تقف بوجهه وهناك من مات وهو واقع في فخها. ها هي التجربة الأوكرانية خير مثال، هل في أوكرانيا تحريض مذهبي مثلاً؟ هل خرجت الثورة الأوكرانية من الجوامع لتنادي بما نادت بهِ ثوراتكم الطائفية؟ حكماً لا، إذاً لنقارن الوضع بين أوكرانيا ما قبل الثورة البرتقالية وما بعدها، إلا إن كان البعض يسمي الخروج من الوصاية الروسية والدخول في الوصاية الناتوية انجازاً لهذه الثورة، لكن مشكلة المثقف العربي الذي يريد إقناعنا بنظرته «الموضوعية» للأمور أنه يريد بأي حال من الأحوال تجاهل نقطة التلاقي الوحيدة بين «الثورات العربية» والأوكرانية وهي أنهما خرجتا بتحريضٍ لا من رحمِ المعاناة، جاءت بمباركة أميركية وكيفَ أصبحت النتيجة؟ تحولت أوكرانيا من خط فصل بين «ناتو» وروسيا إلى ساحةِ معركة تهدِّد وجود هذا البلد من الأساس، لكن هل التوتر فعلياً بلغَ أشده؟!
من يقرأ ويسمع التصريحات الغربية حول أوكرانيا يظن فعلياً بأن الروس سيدخلونها اليوم أو غداً، على الواقع يبدو الحال مختلفاً تماماً، حتى روسيا نفسها نفت كل ماله علاقة بالتقارير الغربية التي تتحدث عن عمل عسكري روسي قريب ضد الجار اللدود، بل إن رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية سيرغي ناريشكين اعتبر أن من يروج لهذه الأكاذيب يريد أن يدفع بالحكومة الأوكرانية نحو ارتكاب حماقةٍ ما، أي إن الغرب لا يزال ينفخ في النار لأنهُ فعلياً يرى مصلحة كبيرة بإشعالها، حتى لو دفع الأوكرانيون الأبرياء ثمن هذا التحريض، وثمن دخولهم محرقة لا ذنب لهم بإشعالها إلا أن ولاةَ أمرهم يعتقدون بأن «ناتو» سيسارع لتلبيةِ مطالب الحكومة الأوكرانية بالذود عنها، هؤلاء يكررون بدون شعور الكثير من الخيبات العربية، هؤلاء هم صورة مطابقة لثوار الربيع العربي مع فرقٍ بسيط أنهم وصلوا للسلطة، فماذا ينتظرنا؟
من الواضح أن الجانب الروسي يتعاطى مع الملف الأوكراني بالكثير من الحذر، فلا الأجواء هي أجواء حرب ولا الروسي بوارد التصعيد مع خصمٍ بات بالنسبةِ له أكثرَ من ضعيف، وربما الكلام ذاته ينطبق على الحالة الصينية بما يتعلق بتايوان، لكن من الواضح أيضاً أن «ناتو» يريد رفع حدة التصريحات الإعلامية حتى نهاية الأسبوع القادم، موعد اجتماعات حلف شمال الأطلسي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، هم هكذا دائماً يحاولون إلقاءَ قنابل دخانية تغطي فشلاً ما في مكانٍ ما، وبعدها ستنكفئ الحاجة الناتوية لرفعِ مستوى التهديدات والتهديدات المضادة، وبانتظار معرفة ما سيخفيهِ الدخان المتصاعد من هذه الحرب الكلامية لابد لنا أن نطرح تساؤلاً منطقياً:
متى سيتعظ الأوكرانيون من تجاربِ الآخرين؟