من الصعب الآن القول إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قد استقرت خياراتها فيما تريده من الأزمة السورية، أو في ما تريده من دمشق تحديداً، على الرغم من قرب إتمامها لعام كامل على وجودها في السلطة، وما نراه هو مجموعة من التحولات التي تنبئ بإمكان فتح العديد من المسالك التي قد تفضي إلى جعل طريق التسوية سالكاً لكن دون أن تؤكد أن ذلك الطريق سالك حتى النهاية.
في أواخر شهر حزيران الماضي كان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد حدد ثلاث أولويات لواشنطن في سورية، أولاها هو ضمان دخول المساعدات الإنسانية إلى سورية، وبالتحديد إلى المناطق الواقعة خارج سيطرة الدولة السورية، والثانية هي المحافظة على وقف إطلاق النار وإعطاؤه صفة الديمومة والاستمرار لتهيئة المناخات المناسبة للوصول إلى تسوية سياسية مفترضة للأزمة السورية، أما ثالثتها فهي تركز على أن يشكل القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن للعام 2015 الإطار الأساسي لأية تسوية مقبلة، وفي مطلع شهر تشرين الثاني كانت دوائر صنع القرار السياسي في واشنطن قد شهدت مداولات مطولة هي أشبه بمراجعة لمسار الأزمة السورية وتحولات الموقف الأميركي من تلك الأزمة على مدار عقد كامل من الصراع، وفي نهاية تلك المداولات كانت تلك الدوائر قد أضافت إلى أولويات بلينكن سابقة الذكر أولويتين اثنتين، أولاهما هي ضمان «حقوق الإنسان» التي تمثل ورقة ذائعة الصيت كثيراً ما استخدمتها واشنطن للضغط على الحكومات التي تنظر إليها على أنها تغرد خارج سرب «الحمام» الأميركي، وثانيتهما هي ضمان «تخلص» دمشق من أسلحة الدمار الشامل، في مؤشر على نية أميركية لتفعيل القرار 2118 الصادر عن مجلس الأمن للعام 2013، والخاص بملف الأسلحة الكيميائية السورية من جديد.
هذه المتغيرات التي حدثت في غضون أقل من خمسة أشهر، والتي توحي طبيعة السياسة الأميركية الحائرة تجاه سورية بأنها قد تشهد بدورها متغيرات أخرى خصوصاً في غضون الشهرين الباقيين على إتمام إدارة بايدن لعامها الأول، لكن ما يلفت النظر فيها هو غياب بند ثابت كان على غاية من الأهمية لطالما حافظت إدارتا باراك أوباما ودونالد ترامب على إبقائه أساسيا من بين أولوياتهما المعلنة في سورية، فمطلب «إخراج إيران من سورية» غاب دفعة واحدة عن أولويات بلينكن سابقة الذكر، وكذا عن الأولويات التي حددتها مداولات دوائر القرار الأميركية التي حصلت شهر تشرين الثاني الجاري سابقة الذكر أيضاً، والفعل من حيث النتيجة يتعدى في مضامينه، والدلالات التي يحملها، احتمالية أن يكون ذلك التغييب قد حصل لتهيئة مناخات «أفضل» يمكن لها أن تعطي شحنة إيجابية لمفاوضات فيينا التي تسعى واشنطن من خلالها للعودة إلى الاتفاق النووي مع طهران، أو التوصل معها إلى اتفاق معدل عن هذا الأخير، وهو، أي ذلك الفعل الذي نقصد به تغييب هذا المطلب الأخير، من المقدر له أن يفسح المجالات أمام هذا «التقاطر» العربي تجاه دمشق، إذ لطالما شكل، وسيشكل، هذا الفعل مقدمات واضحة للدور الإقليمي السوري الذي سيلي انتهاء الأزمة، وكذلك للتموضع الجيوسياسي النهائي السوري في مرحلة التعافي المنتظرة، ولربما كانت «المبادرة الإماراتية» التي وصلت ذروة عالية مؤخراً عبر زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق ولقائه بالرئيس بشار الأسد، قراءة استباقية لذلك التموضع، وإن كانت تندرج أيضاً في سياق سياسة جديدة لإدارة بايدن ذهبت من خلالها إلى «غض الطرف» عن محاولات التقارب العربي مع دمشق وصولاً إلى إمكان أن تعود الأخيرة إلى الحضن العربي بشكل رسمي بعد مؤتمر القمة العربي المفترض عقده في الجزائر شهر آذار من العام القادم.
أوراق الضغط التي تستجمعها واشنطن راهنا تهدف إلى قولبة الخيارات الروسية في سورية، والإبقاء على أوراق قوة قادرة على فرض «ناعم» لمصالح أميركية، ففي العاشر من الشهر الجاري التقى مسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك بمساعد وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين بجنيف، واللقاء كان هدفه توسعة التوافقات الروسية الأميركية في سورية وصولا للتمديد للقرار 2585 الصادر عن مجلس الأمن شهر تموز الماضي، والخاص بتمديد إدخال المساعدات الإنسانية إلى سورية، قبيل أن تنتهي مدة التمديد في 8 كانون الثاني المقبل، ومن الراجح أن تشهد اللقاءات جولات أخرى قبيل هذا الموعد الأخير، خصوصاً أن واشنطن كانت قد قدمت عبر ماكغورك وعوداً بتنفيذ تعهداتها التي قطعتها، والخاصة بدعم «التعافي المبكر» في حال مضى الروس إلى انتهاج سياسات تقارب «الأولويات» الأميركية المعلنة في سورية.
مجمل الصورة المتكونة في غضون عشرة أشهر من ولاية جو بايدن يوحي بأن واشنطن تبدي عزماً على إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، وهي ما انفكت تخطو، وإن كان بشكل حذر، نحو تقديم مؤشرات هي أقرب ما تكون إلى مبادرات تندرج في إطار «حسن النيات» لتشجيع الروس على القيام بخطوات تماثلها في الطبيعة، ومن الراجح، إذا ما سارت التطورات وفق سياقاتها الراهنة، أن تشهد الأزمة السورية بدءاً من شهر كانون ثاني المقبل، الذي سيشهد تمديدا مفترضا للقرار 2585، إنفراجات عدة من النوع الذي يمكن البناء عليه من نواح عدة سياسية واقتصادية.