عندما نتمسك بالفكر الضيّق، ونقتل أيَّ مساحة فيه قابلة للتطور، وفي الوقت ذاته، حينما لا نستطيع استيعاب أيّ فكرٍ آخر، أو نفقد قدرة التسامح مع أيّ رأي يتناقض مع مسلماته، تكون النتائج أكثر من سلبية، ونحتاج إلى مراجعة تشمل أفكار حامليها.
سألت نفسي: لماذا أصرُّ على ضرورة النهوض بالثقافة العربية رغم تنوع مصادرها وغناها المعرفي القادم من تعدّد إثنياتها ومذاهبها وعمقها الروحي والأدبي بصنوفه؟ ورحت أسأل سواد المثقفين عن هذا التنازع العربي وحروبه المؤلمة والمكلفة جداً، التي تحتاج إلى وسيط خارج عنهم بين الفينة والأخرى، يجلبهم إلى طاولات الحوار بالقوة أو اللين، ليكون في النتيجة المستفيد الرئيس من نتائجه، أياً كانت.
هل نماحك أفكارنا ونذهب لرؤية واقعنا الذي يكشف من عمقه حتى سطحه عن هشاشة حقيقية لا وهمية في الروابط وتماسك الأبعاد وتعلقه بالزيف؟ فأيّ ثقافة جامعة هذه التي يمكن أن تنهار في لحظة خلاف، أو لمجرد إعلان مجموعة ضئيلة أو كثيرة من الناس عن أفكار نختلف معها؟ أي وصاية انتقامية يمارسها المثقفون على الناس، وكأن الغاية إبعادهم؟ كيف بنا لا نتداعى للبحث النوعي عما نمتلكه من فكر ضيّق، هذا الذي لا يقدر أن يستوعب أيَّ فكرٍ آخر، أو التسامح مع آراء تتناقض مع ما يعتبره مسلمات؟ وكيف بنا لا نفكر بفكرة التعامل مع المشكلات بروح وطنية تأخذنا لتمثل الشخصية العربية خاصتنا؟ حيث نؤمن بها من أجل التعامل مع الآخر، ولا نستند إلى نظرية المؤامرة الداخلية أو الخارجية أو الكونية التي تعتمدها أغلبية المثقفين العرب على أنها السبب الرئيس لتخلفنا، هذه التي خلقناها من عقلنا العربي، وذهبنا بعيداً بها، ما خلق لدى الآخر سخرية مزعجة لدرجة المرارة ونقداً اخترق كامل مكوناتنا، بدءاً من خطابنا الثقافي، مروراً بمبادئ الالتزام الإنساني، وصولاً إلى العمل والتعليم وبناء الثقة المحفزة للوعي، وبشكل خاص الاهتمام بالفنون السبعة.
ألا يدعونا كل هذا للبحث عن الجذر التاريخي لهذه الأزمة، التي إن لم نجتهد لحلها فستبقى تفرخ الأزمات بين الحين والآخر؟ ألا يشير كل هذا إلى حتمية انهيار ما تبقى من هذه الثقافة؟ ألا يدلنا الواقع والوقائع على هشاشة الفكر العربي، وأن واقعه حقيقة قائمة؟
مؤكدٌ أننا نحتاج إلى مبادرات نوعية وإستراتيجية لا دور فيها للارتجال، ولا مكان للحلول المؤقتة، فالثقافة ليست موروثاً جامداً، إنما جين يتطور كل يوم، والحضارة تصنع بأفكار أبنائها، والتاريخ هو ما تفعله في اليوم، من أجل أن يكون لك غدٌ أفضل وصورة أجمل وواقع نوعي لا وهمي.
التاريخ والثقافة يواصلان طريقهما إلى الأمام، ينقلان ما نفعله إلى الأجيال، تضيف عليهما أو تحذف منهما، ومن هنا نحكم أن هذه المجتمعات بأجيالها ناجحة أو منحدرة إلى الأسفل، هذا كله يربطها بالسياسة المتبعة التي اعتُبر نجاحها من مرتكزات الاقتصاد ووحدة المجتمع وثقافاته التي تشكل لها منطقها العلمي، وتأخذ بها إن كانت ناجحة إلى السبل الصحيحة. وهنا أرى أنه غدا من الضروري إحداث تحولات في المشهد الثقافي العربي بشكل عام والقطري على وجه الخصوص، لأنه إذا استمر الحال على ما هو عليه فالمجتمع في تراجع وتقهقر نتاج عدم قدرتها على القراءة الواقعية، فهي إما ماضوية وإما خيالية، ومجتمع لا يستطيع أن يقرأ لا يستطيع الحياة، وإذا اعتمدنا النقد الثقافي فإنني أعتبره شكلاً من أشكال المعرفة، وكل معرفة بحاجة دائمة إلى الفحص والمعالجة بعد المراجعة، فهذا يدعونا لمراجعة ثقافاتنا لضبط اتساقها ووقف انفلاتها.
هل نستنبط صفوة الثقافة من حنايا الماضي، تلك التي تلفظ أحزاننا ومآسينا وغضبنا وطيشنا؟ والتي تراقب بنظرات ثاقبة ليالي وأيام خوفنا من الغد المجهول، فالثقافة حضارة تمنح الشعوب الطمأنينة وهدأة النفوس، مؤكد أنها مسيرة لن تنتهي، حتى وإن جَفّ الحبر. فالكلمة لن تتوقف عن البحث في الإصلاح وإدراك مواطن الخلل بعد الانغماس في المشكلات الاجتماعية قبل أي شيء، وصولاً إلى الإيمان بالكفاح الاجتماعي الذي يجب على المثقفين الواقعيين سلك سبله، لأن لكلٍّ منا طريقته في معالجة الواقع ومعاناته، حيث يكون المجمل ثمرةً نطلق عليها الثقافة الخلاقة، هذه التي لا يمكن لنا أن نحصل عليها إلا من بيئتنا الاجتماعية، ومن آدابنا الموروثة.