يبدو من الواضح أن الولايات المتحدة تحاول التخلص من جبهات الحرب الساخنة التي انغمست فيها وتعمل بالمقابل على خلق جبهات حرب ساخنة لروسيا الاتحادية بهدف إضعافها والتحرك ضد حلفائها أينما كانوا، فقد تخلصت واشنطن من حرب المجابهة المباشرة في أفغانستان وهي أطول جبهة حرب خاضتها في تاريخها، وأجبرتها المقاومة على التخلص من جبهة الحرب المباشرة أيضاً في العراق بعد انسحاب قواتها عام 2012، وتجنبت حرباً مباشرة ضد كوريا الشمالية وفنزويلا ونيكاراغوا وكوبا وضد سورية وإيران طوال السنوات العشر الماضية، وأصبح يهمها في هذه الظروف توريط روسيا الاتحادية بحرب بل بحروب في ساحات متعددة بقدر ما تستطيع لإضعافها في مناطق عديدة والاستفراد بحلفائها في الشرق الأوسط والبحر الأسود.
وفي ظل هذه السياسة التي يتبناها الرئيس الأميركي جو بايدن تزايدت خلال الأسابيع الماضية حملة الاتهامات الأميركية الرسمية والإعلامية لموسكو بالتخطيط لاحتلال أوكرانيا المتاخمة لحدودها في البحر الأسود، ورغم النفي والتفنيد الروسي الرسمي لهذه المزاعم تعاملت واشنطن ومعها حلف الأطلسي مع هذه الاتهامات بشكل دفعها إلى زيادة قطعها الحربية ومساعداتها العسكرية لأوكرانيا بحجة حماية أوكرانيا ومنع احتلالها، وقامت بمناقشة هذه المزاعم على مستوى رفيع المستوى في حلف الأطلسي لحشده ضد روسيا، وكانت مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون أوروبا ويوروآسيا كيرين دونفريد قد أعلنت في 26 تشرين الثاني الماضي في مؤتمر صحفي أن «كل الخيارات أصبحت على الطاولة (في موضوع حماية أوكرانيا) ولدينا أدوات متعددة تتضمن عدداً واسعاً من الخيارات».
ولا أحد يشك في أن واشنطن تريد ضم أوكرانيا كعضو إلى حلف الأطلسي، وتدرك أن موسكو أعلنت أنها لن تقبل أبداً مثل هذا الإجراء ولن تسمح به، ولذلك يبدو أن واشنطن والأطلسي يسعيان إلى تحقيق جزء من هذا الهدف الذي تصطف إلى جانب متطلباته العسكرية والسياسية الحكومة الأوكرانية، فقد دعا رئيس الحكومة الأوكرانية دينيس شمايهال في 25 تشرين الثاني الماضي الحلف الأطلسي إلى زيادة قدراته العسكرية البحرية في البحر الأسود وسارعت ضمن الحملة نفسها على روسيا، بولندا للمطالبة بزيادة نشر قوات الأطلسي فيها وفي دول البلطيق المتاخمة، وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعلن في مؤتمر نادي فالداي السياسي الروسي في تشرين الأول الماضي أن «منح العضوية الرسمي في حلف الأطلسي لأوكرانيا لن يحدث وأن التطورات الحربية في البحر الأسود تشكل تهديداً للاتحاد الروسي».
السؤال المطروح ما سبب تزايد وجود المزاعم الغربية ضد روسيا على جدول العمل الأميركي والأطلسي؟
مجلة «أتلانتيك كانسيل» الأميركية وفي تحليل بعنوان «كيف يمكن ردع روسيا الآن» نشرته في 23 تشرين الثاني الجاري رأت أنه إذا لم ينفع خيار العمل الدبلوماسي لإنهاء حالة (تهديد) أوكرانيا بالتوصل إلى اتفاق، فإن الخيار الثاني يتعين أن يكون تصعيد حملة العقوبات الغربية على روسيا وتوسيع عدد المشاركين فيها.
وعلى فرضية فشل هذين الخيارين فهل ستجازف واشنطن وتتحمل أن تشن أوكرانيا حرباً استفزازية ضد روسيا طالما أن روسيا نفت وفندت مزاعم الغرب في هذا الموضوع؟ يرى أناتول ليفين في تحليل نشره بمجلة «ريسبونسيبيل ستيتمان» في 24 تشرين الثاني الجاري أنه في وقوع حرب في البحر الأسود بين أوكرانيا وروسيا لن تجرؤ أي دولة في الحلف الأطلسي على المشاركة فيه، وهذا الحلف ظهر عاجزاً في عام 2014 في موضوع جورجيا مع روسيا واستخدام القوة العسكرية الروسية ضدها، وكذلك في اشتباكات روسيا مع أوكرانيا عام 2015 وما نتج عنه من اتفاق مينسك، وهذه الدول لا يمكن أن ترسل قوات برية إلى أوكرانيا لمواجهة الروس إذا ما اندلعت حرب هناك، أما الولايات المتحدة فتسعى فقط إلى إشغال روسيا بجبهة حرب في البحر الأسود يكون وقودها الأوكرانيين وليس الأميركيين أو الأوروبيين، لأن واشنطن ومعها الأطلسي يدركان أن أي مجابهة حربية أميركية روسية في البحر الأسود لن تتوقف عند هذه الجغرافية أو عند استخدام الأسلحة التقليدية، وهذا ما يجعل أوروبا ترفض التصعيد إلى هذه الدرجة وتفضل سياسة الحرب الباردة مع روسيا في موضوع أوكرانيا حتى لو كان ذلك في مصلحة روسيا، فأوروبا دفعت على أراضيها ومن شعوبها ثمن حربين عالميتين بأسلحة تقليدية ولن تعرض نفسها لاحتمال وقوع حرب نووية عالمية تكون فيها أراضيها مسرحاً مركزياً لها، بينما تحافظ الولايات المتحدة على قارتها البعيدة مثلما فعلت في حربين عالميتين.
وإذا كانت الولايات المتحدة تجد نفسها رابحة حتى في خيار اللجوء لحرب باردة ضد روسيا في البحر الأسود، إلا أن أوروبا تعرف أنها هي أيضاً ستدفع ثمن هذه الحرب التي ستفرض عليها فيها واشنطن إعلان العداء لروسيا الجارة الأورو-آسيوية العظمى وهو ما لا قبل لها به بموجب كل موازين القوى، ولذلك ستتحول الاستفزازات الأميركية إلى زوبعة في فنجان.