هيئة الرقابة تصطدم مع وزارة التنمية الإدارية … عضو محكمة دستورية لـ«الوطن»: مخالفة مباشرة وصريحة لقانون إحداث الهيئة وإجراء تعسفي يؤدي إلى نتائج غير محمودة
| محمد راكان مصطفى
لم تلق الهياكل التنظيمية التي أطلقتها بعض الوزارات بناء على توصيات مؤتمر «التطوير الإداري» الذي انعقد قبل عدة أشهر رضى العاملين في هذه الوزارات، ولا حتى المختصين في الأمور الإدارية ومراقبة الجودة، حيث رأوا أن جل الاهتمام الذي جاء في توصيات الوزارة ينصب على تقلص عدد المديريات والدمج من دون الاهتمام بتجانس وتوافق المهام في المديريات المبتكرة في الهيكليات الجديدة.
توصيات المؤتمر التي تمخضت عنها الهياكل التنظيمية لم تراع ما جاء في بلاغ رئيس مجلس الوزراء حسين عرنوس الذي سبق انعقاد المؤتمر بفترة، والذي نص على تنظيم معالجة المواضيع والقضايا التي تدخل ضمن اختصاص الوزارات أو تعرض على رئاسة مجلس الوزراء بما يضمن البت فيها من دون تأجيل أو تراخ من العاملين المكلفين إنجازها وضماناً لعدم رفع أي موضوع لجهة أعلى ما لم يستوجب القانون الحصول على موافقة هذه الجهة.
ليصدر الوزراء وبعد نحو ثلاثة أشهر الهياكل التنظيمية لعدد من الوزارات (النقل ـ التعلم العالي ـ الإدارة المحلية..) متضمنة مخالفات واضحة لمضمون هذا البلاغ حيث تم بموجب هذه الهياكل تخفيض المستوى الوظيفي لمديريات في هذه الوزارات ودمجها مع عدد من الدوائر التي لا يوجد رابط تخصصي بينها كدمج محاسبة الإدارة والرقابة الداخلية والإعلام والعلاقات العامة والأعمال التنفيذية والقياس والجودة في مديرية واحدة! وبعيداً عن عدم منطقية هذه الدمج يبقى وقوع مخالفة قانونية هو الأساس في هذه الهياكل، حيث تم تخفيض المستوى الوظيفي لمديريات الرقابة الداخلية في هذه الوزارات، من دون أخذ أي اعتبار لقانون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش ونظامها الداخلي حيث يعتبر القانون الوحيد المعني بتنظيم عمل هذه الرقابات وتحديد مهامها ومستواها الوظيفي.
وجاء في تفاصيل البلاغ الصادر بتاريخ 18/4/2021 أنه يجب عندما تتطلب المعالجة منح موافقة معينة يجب أن يكون القرار محدداً وواضحاً ومستنداً إلى مبررات قانونية يتم ذكرها بوضوح، ودون أي حاشية إضافية تجعل للرأي تفسيرات مختلفة (وفق القوانين والأنظمة – أصولاً – بما يحقق المصلحة العامة) باعتبار أن القانون ذاته الذي حدد اشتراطات منح الموافقة وضع لتحقيق المصلحة العامة.
وأشار إلى أنه في حال وجود تعارض بين نصين قانونيين أو غموض في تفسير نص قانوني بخصوص صلاحية الجهة المكلفة بمعالجة موضوع معين، يتم عرض الموضوع على القسم الاستشاري للفتوى والتشريع لدى مجلس الدولة والعمل بالرأي الصادر عنه بهذا الصدد.
ووفقاً لبلاغ رئيس لحكومة وفي حال وجود نص قانوني يستوجب الحصول على موافقة جهات أخرى، تتم إحالة الموضوع إلى تلك الجهة مع تضمين إحالة النص القانوني المحدد لوجوب الحصول على موافقة هذه الجهة.
ويأتي إحداث أجهزة الرقابة الداخلية في الجهات العامة كافة بموجب المادة رقم 4 من قانون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش رقم /24/ لعام 1981، وتضمنت هذه المادة أهداف إحداث الرقابات الداخلية ومهامها ونصت الفقرة /هـ/ منه بأن المراقبين في أجهزة الرقابة الداخلية يتمتعون بحصانة النقل والندب والتأديب، فلا يجوز نقلهم أو ندبهم أو معاقبتهم إلا بموافقة رئيس الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، على حين نصت الفقرة /ز/ من المادة نفسها على أن قواعد عمل الرقابات تنظم في النظام الداخلي للهيئة ويضع الوزراء لوائح داخلية لأجهزة الرقابة التابعة لهم بما لا يتعارض مع أحكام قانون الهيئة ونظامها الداخلي، ليأتي النظام الداخلي للهيئة رقم 250 لعام 1990 محدداً آلية تسمية العاملين في الأجهزة الرقابية وشروط هذه التسمية وكيفية ممارسة عملهم الرقابي بشكل تفصيلي وصلاحيات ومحظورات القائمين بهذا العمل، إضافة إلى آلية تأديتهم لليمين القانونية تبعاً للمستوى الوظيفي.
وعلى اعتبار أنه لم يصدر أي قرار بتعديل المادة رقم 4 من قانون الهيئة أو نظامها الداخلي، إلا أنه جاءت القرارات الوزارية بالهياكل مخالفة بذلك نصاً قانونياً صريحاً بصورة سافرة! ما يستدعي المحاسبة على هذه المخالفة أو اتخاذ الإجراء القانوني وفق بلاغ رئاسة الحكومة بمخاطبة الهيئة للحصول على موافقتها على التعديلات المجراة.
مديرو الرقابة في الوزارات أماطوا عن كاهلهم المسؤولية القانونية الواقعة بسبب ارتكاب هذه المخالفة، وقاموا بتوجيه كتاب إلى وزرائهم، وفي الوقت ذاته إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، أشعروهم بموجبها بوقع المخالفة، لافتين إلى أن مديريات التنمية الإدارية في الوزارات تقوم بفرض واقع لا يتفق مع قانون الهيئة ونظامها الداخلي كحد أدنى أو التعامل على أساس أنه غير موجود نهائياً!
تجميع وانتظار
«الوطن» توجهت بالسؤال إلى الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش عن مصير الكتب التي وصلتها من مديريات الرقابة الداخلية، حيث أكدت مصادر في الهيئة أنه لم يتم الرد على أي من هذه الكتب حتى الآن، وتم تجميعها بانتظار عرضها على المجلس الأعلى للهيئة، واتخاذ قراراها وفق القوانين.
وأكدت المصادر أن الهيئة مازالت تتعامل مع الرقابات الداخلية في الوزارات كمديريات وفقاً لما نص عليه قانون الهيئة ونظامها الداخلي، وأنه من غير المقبول أن تتخذ أو توافق على أي إجراء يخالف الأنظمة والقوانين، مشيرة إلى أنه تم الاجتماع مع اللجنة المشكلة من وزارة التنمية الإدارية لمناقشة بطاقة الوصف الوظيفي للرقابات الداخلية، مؤكدة أنه تم نقاش الفريق المشكلة من قبل الوزارة في المخالفات الواقعة بسبب تخفيض المستوى الوظيفي للرقابات مع قانون الهيئة، إلا أن الفريق بين أنه ليس من صلاحياته مناقشة المستوى الوظيفي وأن مهمتها تنحصر بنقاش بالبطاقة، مشيرين إلى أن ردود الفريق بالنقاش الودي كانت غير منطقية لكونهم يدركون وجود تجاوزات ومخالفات للقانون.
وأوضحت المصادر أن حجة وزارة التنمية كانت تعتمد على أن نص المادة 4 الفقرة أ جاء بحرفتيه: تحدث في كل وزارة، أو إدارة أو مؤسسة أو شركة أو منشأة أو هيئة عامة أو وحدة إدارية، أجهزة للرقابة الداخلية، أي إن القانون لا ينص على إحداث أجهزة ولم ينص صراحة على تحديد المستوى الوظيفي بمديرية، وقال المصدر: إن المادة رقم 4 الفقرة ز من قانون الهيئة أشارت إلى أن قواعد عمل الرقابة الداخلية تنظم في النظام الداخلي للهيئة ويضع الوزراء لوائح داخلية لأجهزة الرقابة الداخلية التابعة لهم فيما لا يتعارض مع أحكام هذا القانون والنظام الداخلي للهيئة الذي نظم عمل الرقابات الداخلية، مؤكدة أن مخالفة النظام الداخلي للهيئة تعتبر مخالفة صريحة لقانون الهيئة، حيث نص صراحة في المادة 173 على أنه يؤدي اليمين أمام الوزراء المختصين بحضور أحد معاوني رئيس الهيئة بالنسبة لمديري الرقابة الداخلية في الوزارات والمؤسسات والشركات والهيئات العامة والوحدات الإدارية القائمة في محافظتي دمشق وريف دمشق.
كما رأت المصادر أن تخفيض المستوى الوظيفي من دون الارتكاز إلى منطقية في عملية الدمج لجهة تجانس المهام والاختصاص، ليكون الهدف ينحصر بتخفيض عدد المديرين، ويتسبب في اتباع المراقب الداخلي لمديرية دعم القرار والذي ووفقاً لقانون الهيئة من الممنوع التفتيش مع المدير المباشر له ما يجعل مدير دعم القرار فوق المحاسبة، كما أن اتباع الرقابة له سوف يتسبب بالإخلال بسرية التقارير والمهام لكونه أصبح من الواجب على المراقب العودة إليه عند القيام بالمهامات التفتيشية للحصول على موافقته، عدا إطلاعه على التقارير التفتيشية المرسلة عبر البريد ما يمس بسرية التحقيقات والتقارير من قبل شخص غير مفوض من قبل الهيئة.
وأكدت المصادر أنه تم توجيه كتاب من الهيئة إلى رئيس مجلس الوزراء وجاء الرد بضرورة التقيد بالأنظمة والقوانين وعليه فإن الهيئة لن تتعامل مع أي تغيرات تمت في الهياكل التنظيمية للوزارات ما دامت تخالف قانون الهيئة.
يخالف الأنظمة والقوانين
عضو المحكمة الدستورية العليا والأستاذ الجامعي الدكتور سعيد النحيلي قال: يدخل في مهمة كل جهة عامة وضع هيكلها التنظيمي وفق معايير واضحة، أهمها أن تكون البنية الإدارية التنظيمية هادفة وضرورية، ولا يتحقق ذلك إلا بعد دراسة جدوى هذه التنمية التنظيمية أو تلك، وحجم المهام والمسؤوليات المتعلقة بها.
وأشار إلى أن ذلك يتطلب إجراء توصيف وظيفي سليم تمهيداً إلى إشغال الوظائف التي نجمت عن إحداث تلك البيئة التنظيمية بالكوادر البشرية الكفؤة وفق ما تقتضيه مقولة: «وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب»، وهذه المقولة ولدت بعد أن ولد مبدأ تنظيمي مهم في دنيا الإدارة ألا وهو مبدأ التخصص الذي يهدف إلى منع تضارب الاختصاصات وتجنب مشكلات البطالة المقنعة.
وقال: مما لا جدال حوله، هو أن الوحدات التنظيمية ليست من نوع واحد، بل تتعدد أنواعها منها وحدات أساسية تنفيذية ومنها وحدات مساعدة بنوعيها العامل والاستشاري، وينجم عن ذلك أن العملية الإدارية برمتها (التخطيط أو التنظيم أو القيادة أو صنع القرار) إنما يخضع إلى تقييم وفق معيار الجودة والسرعة والكلفة، ومن ثم تخضع عملية التقييم هذه لإجراء رقابة بكل صورها سياسية وإدارية وقضائية.
ولفت إلى أن تشريعات الوظيفة العامة تسعى إلى تنشيط مؤسسة الرقابة الإدارية سواء الذاتية التي تجري من الرئيس على أعمال المرؤوس، أو الرقابة التي تمارسها هيئات مختصة خارجية تتمثل بجهتين رقابيتين هما الجهاز المركزي للرقابة المالية والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.
وبين أن المشرع السوري أسند إلى هذه الهيئات مهام ومسؤوليات جساماً ومنحها وسائل رقابية وقائية وأخرى علاجية بغية الوصول بالجهة العامة إلى أبهى صورة ممكنة من الإنتاجية والجودة (سواء أكانت إدارية أم إنتاجية).
وقال: قد راعى المشرع في صكوك إحداث تلك الأجهزة الرقابية عدة معايير تمكنها من أداء مهامها بفاعلية وبموضوعية، ومن ضمن هذه المعايير جهة ارتباط تلك الجهات وتفرعاتها الموزعة على الجهات العامة (مؤسسة الرقابة الداخلية) حيث ينبغي أن تكون جهة الارتباط مع الهيئة الأم، ومع قمة الهرم الإداري للجهة التي تعمل فيها.
وأضاف: بالتالي، فإذا كان لا بد من إعادة هيكلة الجهات العامة، فإنه من غير المقبول تغيير جهة ارتباط الرقابة الداخلية، لأن عملها منوط ليس بقانون الجهة العامة، بل بالقانون الناظم لعملها، بمعنى آخر: لا يجوز أن تطول عملية إعادة الهيكلة وحدات الرقابة الداخلية، وتابع قائلاً: أن أي إجراء تنظيمي مغاير إنما يعد مخالفة مباشرة وصريحة لقانون إحداث الجهات الرقابية الذي وصف ابتداءً مهامها وجهة ارتباطها، وبالتالي يكون إجراء تعسفياً انتقائياً يؤدي إلى نتائج غير محمودة.
لا ربط تخصصياً
عدد من مديري الرقابة الداخلية التابعين لعدد من الوزارات تساءلوا في حديثهم لـ«الوطن» عن القانون أو المنطق العملي أو الإداري الذي يبرر دمج الرقابات مع مديريات ولا رابط تخصصياً يجمع بينها، متسائلين عن السبب الحقيقي لفرض هذا الدمج رغم أنه لا يصب نهائياً في مصلحة العمل الرقابي بالشكل ولا بالمضمون، وما سيجري هو العكس تماماً، حيث سيجعله أسير واقع لا يتفق مع طبيعة هذا العمل وخصوصيته وأهميته كخط أول لمكافحة الفساد وحماية المال العام للدولة.
وأشار المديرون إلى الصعوبات والمضايقات التي يتعرضون لها أصلاً وقبل عملية الدمج ويمكن لمن يريد أن يرى على أرض الواقع حجم ملفات الفساد التي تصدت لها الرقابات الداخلية ضمن الهامش الذي يمنحه لها قانون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش ونظامها الداخلي وتكليفات السادة الوزراء.
وأضافوا: «في الحقيقة من حيث النتيجة وفي حال فرض دمج الرقابات الداخلية مع مديريات لا رابط تخصصياً يجمع بينها لن يكون لهذا الإجراء أي أثر إيجابي على الإطلاق بل على العكس تماماً، وفي حال إصرار وزارة التنمية الإدارية على الدمج يكون من الأفضل إلغاء المادة رقم /4/ من قانون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش ما يعني حل الرقابات الداخلية نهائياً، لأن ذلك يصل إلى نفس النقطة من حيث الآثار والنتيجة النهائية كواقع على الأرض على المديين القصير والمتوسط بكل تأكيد».
ويبقى السؤال الأهم والكلام للمحرر ما السبب وراء صمت هيئة الرقابة والتفتيش أمام الاعتداء الصارخ على قانونها؟ ولماذا لم تعرض الموضوع على القسم الاستشاري للفتوى والتشريع لدى مجلس الدولة للحصول على الرأي القانوني في هذا الموضوع، رغم أن سكوت الهيئة بهذه الصورة يعتبر تشريعاً صامتاً منها لمخالفة القوانين.