لا يخفى على المتابعين أن هناك تغيرات جيواستراتيجية، تحصل على الصعيد العالمي في مركز الإمبراطورية الأميركية، من ناحية الأولويات التي تراها واشنطن في مواجهة الصين وروسيا، والتي تشغل درجة عالية من الأهمية في عقول القيادات الأميركية الأمنية والعسكرية، مقابل تراجع أولويات أخرى كانت تشغل أجندة واشنطن طوال عقود، ومنها مثلاً: التدخل في التفاصيل اليومية لأزمات ومشاكل الشرق الأوسط، ورعاية الحلفاء كأطفال الروضة، وهو أمر تغير جذرياً، وهذا التغير الجذري بدأنا نتلمس ملامحه في تصريحات أدوات الولايات المتحدة التي قادت وانخرطت معها فيما سمي مشروع «الدمار العربي- الربيع العربي» طوال عقد من الزمن، ومنها الحرب على سورية، التي فشلت في تحقيق أهدافها السياسية، أي إنتاج نظام سياسي موالٍ لواشنطن، والإتيان بشخصيات ألعوبة تديرها الولايات المتحدة وأدواتها، ولكن فشل هذه الحرب بجانب من أهدافها لا يخفي أبداً أن أعداءنا حققوا جزءاً من أهدافهم إذا أردنا أن نكون موضوعيين، ومنها: التدمير الممنهج للبنى الاقتصادية والتحتية، وبث لغة الكراهية والحقد بين أبناء المجتمع السوري في محاولة لتقسيم المجتمع على أسس مذهبية وطائفية وإثنية، وتجنيد جزء من الشباب السوري تحت عناوين مختلفة لتدمير بلده بأيديه، وتحويله إلى معول هدم، بدلاً من أن يكون أداة بناء، إضافة للاستمرار باحتجاز اللاجئين السوريين كرهينة، وورقة سياسية للتفاوض عليها مع الدولة السورية، والتبعات التربوية، والثقافية لهذه الحرب التي لم يتعرض لها شعب في العصر الحديث.
وإذا كان البعض لا يزال يجادل تحت ضغط الحصار الاقتصادي الإجرامي الذي يمارس على بلدنا وشعبنا بأنه كان بالإمكان أخذ خيارات أخرى لتجنب هذه الحرب، فإن قراءة وثائق الحرب، وما تسرب منها تظهر بوضوح شديد أن هذا الوهم يجب ألا نقع به أبداً، لأن الحرب قررت على أعلى المستويات في دوائر القرار الغربية، وأبلغت الأدوات، دولاً ومؤسسات وأفراداً، ووزعت الأدوار، وشكلت غرف العمليات في تركيا، والأردن، وتم تدريب وتسليح آلاف العناصر الإرهابية من كل أصقاع الأرض للوصول إلى الأهداف الموضوعة والمخطط لها، وبالتالي لم يبق أمامنا سوى الدفاع عن وجودنا، وبقائنا، ذلك أنه لم تترك لنا خيارات أخرى لأن من يعتقد أن الصراع والحرب كان من أجل كرسي سلطة فهو واهم، بل كان من أجل سورية أخرى مفككة، ضعيفة، تدار عبر سفارات، وأشخاص، ودول، وتشكل حكوماتها وسلطاتها بيد قوى أجنبية، وإذا أردتم التأكد انظروا إلى ما يحصل في ليبيا وانتخاباتها، وفي لبنان، وفي العراق، وفي السودان، لتعرفوا أن الأمر ليس كما يبسطه البعض، أو يعبر عنه بعفوية وبساطة، لا بل سذاجة في أحيان أخرى.
ما يجب أن نفهمه أن الحروب ذات الطابع التحولي تكون شرسة، وقاسية، لأنها ترتبط ببنية نظام دولي جديد، يموت، وآخر يولد، وريثما يولد الجديد تحاول قوى الهيمنة القديمة وأده، أو تأخير ولادته ريثما تعيد تموضعها الجديد، ولكن الحرب على سورية طالت أكثر مما خطط لها، وطول مدة الحرب أثر في كثير من الأشياء منها:
– انكشاف الأهداف الحقيقية بدلاً من التضليلية.
– تأثر الدول المشتركة في الحرب بتداعياتها.
– تغير موازين القوى على الأرض.
– تضارب المصالح بين قوى العدوان نفسها.
– سقوط أهداف الحرب النفسية وانكشافها.
وغيرها الكثير، ولكن في الوقت نفسه وبقدر ما كان لهذه الحرب تأثير وانعكاسات على أعدائنا، فلا يمكن أن ننكر أنها أثرت أيضاً علينا إذ انتقلنا من المواجهة الأمنية العسكرية إلى تحديات أخرى، منها الاقتصادية والمعيشية، ومواجهة الحصار، والتعاطي معه في ظل خيارات محدودة، وموارد ضيقة، وفساد استشرى، واستمرار سياسة التجريب الاقتصادي، لكن ما يجب أن ندركه أن الخيارات تبقى في هذه الظروف الاستثنائية ما بين سيئ، وأسوأ، والخيار السيئ لا يعني أنه الجيد، ولكنه المتاح، والممكن في ضوء التحديات القائمة.
الأمور ما من شك أنها تتغير نحو انفتاح تدريجي على سورية، وإن كانت بطيئة، ولكنها تسير في الاتجاه الذي نريده، والتي اكتشف فيها كثيرون فشل مقارباتهم في هزيمة سورية وشعبها، وأن العالم تغير، وأولئك الذين شاركوا وقادوا الحرب على سورية بدؤوا يعترفون أو يحاولون التبرؤ مما اقترفته أيديهم، فقبل أيام أجرى رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم مقابلة مع قناة «آر تي» الروسية الناطقة باللغة العربية، أقرّ فيها أن المنطقة ليست بحاجة لاصطفافات جديدة، ولابد من مقاربات مختلفة تتضمن ضرورة الحوار المباشر مع إيران، والوصول لتفاهمات طويلة الأمد، معترفاً بأن التحول تجاه دمشق قد يحصل، لكن حسب زعمه لابد من تغيير الوضع المأساوي ليعود طبيعياً في سورية، منوهاً إلى أن أحد أسباب ما وصلنا إليه هو واشنطن، وأن للعرب طلبات من دمشق ترتبط بحقوق الشعب السوري، حسب قوله!
السؤال الذي يطرح نفسه هنا على حمد بن جاسم وغيره ممن نفذ المشروع الأميركي بحذافيره، وموّل هذه الحرب على سورية وشعبها باعترافه بأكثر من 137 مليار دولار، أليس من حق سورية وشعبها أن تطالبه، وتطالب غيره من بعض الدول العربية بالتعويض عما اقترفته يداه تجاه هذا البلد وأهله، ثم أليس من حق من يدعي الحديث باسمهم أن يسألوه، ويسألوا غيره كيف تحاول ببساطة أن تعتبر أن واشنطن هي المسؤولة، بينما أنت لست مسؤولاً، ولا تتحمل أي تبعة تجاه من شرد، وقتل، وجرح، أليست أموال دولتك هي من مول التسليح، والقتل، والدمار؟ وأليست قناتك الإعلامية هي من ضلل وكذب، وحرض طوال سنوات ضد سورية، وشعبها، وجيشها، ورئيسها؟
دعونا نكن واضحين أن هناك إصلاحات مطلوبة في سورية، ولكنها ليست لتلبية شروط هذا الطرف أو ذاك، سواء أكان عربياً أم غير عربي، ولكن لأنها حاجات وطنية وطبيعية في سورية، وغيرها من الدول، وهي ليست موسمية، وإنما حاجات مستمرة مع تطور الحياة والتكنولوجيا والتحديات.
ولذلك: إذا كان حمد بن جاسم يحاول التبرؤ مما فعله طوال سنوات وجوده في السلطة هو وغيره، فإن ذلك لا يعفيه من مسؤولياته في تمويل قتل السوريين بمليارات الدولارات، وهو طرف لا يحق له وضع الشروط على سورية، وإنما سورية هي من يجب أن تضع الشروط عليه، وعلى غيره.
ولأن البيئة تتغير تدريجياً لأسباب عديدة دولية، ذات انعكاسات إقليمية، فإن الدبلوماسية السورية تعمل على ملاقاة هذه التغيرات، وهذا لا يعني أبداً أننا لا نعرف من القتلة الحقيقيون، والملوثة أيديهم بدمائنا، والذين كانوا يعملون ليل نهار من أجل شطبنا عن الخريطة.
إن معاناتنا وآلامنا الشديدة جداً الآن لن تدفعنا أبداً لتلبية شروط الذئب، ولو حاول التبرؤ من دم يوسف!