«السياح يقلبون صفحات البلدان ولا يقرؤونها» كان ذلك هو الاستنتاج الأبرز الذي فرض نفسه عليَّ عقب عودتي من زيارة الهند لأول مرة، ذلك لأنني عندما ذهبت إلى الهند قبل تسعة وثلاثين عاماً كان لدي وهم بأنني أعرف الهند، إذ كنت قد قرأت بعض أعمال طاغور وشاهدت أفلام ساتياجيت راي وميرنال سين وسمعت موسيقا رافي شنكر، لكنني اكتشفت خلال الأسبوعين اللذين أمضيتهما في تلك البلاد أن معرفتي بها ازدادت قليلاً وأن جهلي بها تضاعف ملايين المرات.
أول ما أذهلني هو أن تلك البلاد لها ثلاثة أسماء رسمية هي: الهند وهندوستان وبهارات. كما لديها 22 لغة رسمية تشكل الإنكليزية وسيلة التفاهم بينها. والحق أن زيارتي الثانية للهند زادتني جهلاً بها.
صحيح أن القوانين في مختلف بلدان العالم باتت تمنع التمييز على أساس اللون والعرق لكن هذه الآفة ما تزال تنخر نفوس المعتدين بلونهم ومالهم، فخلال انتخابات مجلس العموم البريطاني الأخيرة تناقلت وسائل الإعلام أن مواطناً إنكليزياً أراد أن يسخر من سائق التكسي الهندي، لأنهم في الهند يقدسون الأبقار، فأجابه السائق «نحن في الهند نقدس الأبقار ولكننا لا ننتخبها فتقديس من تحلبه خير من انتخاب من يحلبك، ولهذا أصبحنا في الهند نصنع المراكب الفضائية ونرسلها إلى المريخ».
يجهل معظم من يستخدمون بريد «هوتميل» الإلكتروني ومأخذ الـ«يو إس بي» أن مخترعهما من أبناء الهند وأن معظم مدرسي جامعات إنكلترا من الهنود. ومعظمنا يجهل أن الشامبو اختراع هندي، وأن علماء الهند هم من اكتشفوا وجود الماء على سطح القمر، وأن الهند هي ثاني أكبر دولة ناطقة بالإنكليزية في العالم، وأنها ثاني أكبر شعوب العالم تعداداً للسكان برقم يزيد على 1.3 مليار مواطن، وطول شبكة الطرق في الهند تعادل الدوران حول الأرض 117 مرة.
أثناء زيارتي الثانية للهند صارحت فناناً تشكيلياً أنني أزداد جهلاً بالهند كلما ازددت معرفة بها فقال لي عبارة ستظل حاضرة في ذاكرتي ما حييت: «الأمور التي تعرفها تعادل في حجمها حفنة الرمل التي في يدك، أما الأمور التي لا تعرفها فتعادل حجم الكون».
قبل فترة ألقى الرئيس التنفيذي لشركة غوغل الهندي «ساندر بيتشاي» خطاباً في 60 ثانية قال فيه: «تخيل الحياة لعبة من 5 كرات تتلاعب بها في الهواء محاولاً ألا تقع.. هذه الكرات إحداها مطاطية والباقي من زجاج.
الكرات الخمس هي: العمل، العائلة، الصحة، الأصدقاء، الروح. ولن يطول بك الحال قبل أن تدرك أن (العمل) عبارة عن كرة مطاطية كلما وقعت قفزت مرة أخرى، بينما الكرات الأخرى مصنوعة من زجاج، إذا سقطت إحداها فلن تعود إلى سابق عهدها. وستصبح إما معطوبة، أو مجروحة، أو مشروخة، أو حتى متناثرة. عليك أن تعي ذلك، وأن تجاهد في سبيله».
ليست الهند عبئاً على البشرية كما يتصور بعض ذوي الرؤوس المشروخة، فقد سبق لأستاذي شيخ الساخرين مارك توين أن وصف الهند بقوله: «إنها مهد الجنس البشري ومهد الخطاب الإنساني ووالدة التاريخ وجدة الأساطير وأكبر معقل للتقاليد، وفيها أكثر القيم التي أفادت الجنس البشري».
استقلت الهند بعد سورية بعام واحد وهي تحتفل في الخامس عشر من آب القادم بعيد استقلالها الخامس والسبعين وحتى ذلك الوقت قد يصبح عدد سكانها معادلاً لسكان الصين. فتحية للهند وشعبها الصديق.