يبدو أن الولايات المتحدة ستستمر باستخدام سياسة العقوبات الاقتصادية والحصار المالي كأداة رئيسة وسلاح حاد لحماية مصالحها وإرهاب دول العالم ومنعها من تحدي سياساتها وهيمنتها على مصادر ثروات شعوبها. وتشير بيانات وزارة الخزانة الأميركية إلى زيادة القرارات التي فرضت فيها الإدارة الأميركية العقوبات الاقتصادية فقد بلغت نسبة هذه الزيادة حسب السجل الرسمي الأميركي عشرة أضعاف منذ عام 2000 مع ازدياد عدد الدول التي تعرضت لهذه العقوبات تحت حجج واتهامات عديدة مثل عدم احترام حقوق الإنسان وفساد الحكومات ودعم الإرهاب، بموجب التعريف الأميركي لهذه المزاعم.
حين نستعرض طبيعة الدول التي فرضت عليها هذه العقوبات نجدها إما دولاً مناهضة للهيمنة الأميركية مثل روسيا والصين وإيران وكوريا الديمقراطية وكوبا، وفشلت في فرض إرادتها عليها منذ عشرات السنين، وإما دولاً فشلت في تحقيق أهدافها فيها مثل سورية ولبنان وأفغانستان ونيكاراغوا وفنزويلا، وهي على استعداد للتوقف عن اتهام هذه الدول بهذه المزاعم إذا ما خضعت لسياستها وفتحت أبواب دولها لمصالحها على حساب مصالح شعوبها، ويبدو أنه بفضل إحباط القوة العسكرية الأميركية في العقدين الماضيين في تحقيق المصالح الأميركية بدأ الاعتماد على سياسة العقوبات يحتل الأهمية الأولى خاصة وأنها تشكل قدرة اقتصادية ومالية كبيرة وواسعة الانتشار وهذا ما يجعلها تسيطر على الأسواق المالية أيضا لأنها تتحكم بنسبة 62 بالمئة من الاحتياطي المالي بعملة الدولار الذي يشكل بدوره أكبر سلاح مالي تستخدمه وتوظف أموال حلفائها الموجودة في حساباتها في استخدامه لمصلحتها، بل إنها تهدد أحياناً حتى الدول الحليفة لها وخاصة الدول النفطية بتجميد أموالها فما بالك بأموال دول تسقط شعوبها أنظمة حكم خاضعة لها فهذا ما فعلته مع إيران بعد سقوط الشاه ثم زادت العقوبات عليها وعلى سورية ودول أخرى.
هذا السلاح الاقتصادي سيشكل آخر أنواع أسلحة الحروب التي تشنها الولايات المتحدة في العالم قبل أن تفقد قيمتها وقدرتها في خدمة مصالحها الاحتكارية لأن دولاً كبرى منافسة ودولاً إقليمية تطولها هذه العقوبات حين تتعامل مع الدول المستهدفة بالعقوبات لن تسكت على استمرار هذه الحرب الاقتصادية فلا أحد يشك أن روسيا والصين ودولاً أخرى إقليمية تلحق بها أضرار اقتصادية ومالية إذا ما استمرت العقوبات الأميركية ضد إيران وسورية وغيرها من الدول الحليفة.
ومن الطبيعي أن تفرض سياسة العقوبات الأميركية على الدول الكبرى وغيرها من الدول المتضررة وضع سياسة مشتركة تحشد لها عدداً من الدول وتتعاون معاً من أجل مواجهة هذه السياسة الامبريالية التي تسعى إلى الهيمنة على مصادر ثروات الدول وأموالها بحجج واتهامات لا تصمد أمام الواقع وخاصة تجاه كل طرف ترغب واشنطن باستهدافه تحت مزاعم نشر الديمقراطية ودعم الإرهاب.
يبدو أن الإدارة في واشنطن بدأت تشعر في السنوات العشر الماضية أن مصالحها الاحتكارية بدأت تتعرض للتدهور والخسارة في مناطق كثيرة بفضل التنافس الصيني والروسي في أسواق الاستثمارات والتبادل التجاري والصناعات المتطورة مع دول كثيرة في العالم، فقررت اللجوء إلى استخدام سياسة الإرهاب الاقتصادي والمالي على دول عديدة، فواشنطن فرضت على إيران 1100 عقوبة حتى الآن، وعلى سورية عشرات إن لم يكن مئات العقوبات على الأفراد والشركات والحكومة، وابتزت دول النفط وفرضت على السعودية تقديم 500 مليار دولار في عهد الرئيس دونالد ترامب في عام 2017، وتحاول إدارة جو بايدن السير في الاتجاه نفسه لكي تسابق الزمن وتمنع تراجع مكانة الولايات المتحدة وسقوطها من المرتبة الأولى إلى المرتبة الثالثة في سلم أكبر الدول الاقتصادية، فقد خلصت دراسة نشرتها المجلة الإلكترونية لقناة «بي بي سي» البريطانية قبل عام إلى أن الاقتصاد الصيني سيحتل المرتبة الأولى بشكل قاطع ويحتل من بعده الاقتصاد الهندي المرتبة الثانية ثم تحتل الولايات المتحدة المرتبة الثالثة وستحتل اندونيسيا المرتبة الرابعة ثم البرازيل المرتبة الخامسة وروسيا المرتبة السادسة بينما ستتراجع اليابان وألمانيا إلى المرتبة الثامنة والتاسعة وتحتل بريطانيا المرتبة العاشرة بينما لا تظهر فرنسا في سلم العشرة الأوائل.
يبدو أن الإدارة الأميركية تخشى من أن يؤدي استسلامها أمام إيران في منطقة الشرق الأوسط، إلى تعزيز قوة الاقتصاد الصيني والروسي في الساحة العالمية بينما ستخسر هي دور اليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا بعد تراجع دورهم الاقتصادي في دعم الاقتصاد الأميركي وتعزيز هيمنته ولذلك تحاول واشنطن التمسك بعدم رفع كل العقوبات الاقتصادية والمالية عن إيران لتخفيض قدرتها على النمو.