عن السفيرة الفرنسية والاستقالة السيادية.. عندما تتمرد الأكاذيب على الجغرافيا!
| فراس عزيز ديب
وأنتَ تقرأ أو تتابع ما كُتبَ أو قيلَ من تهليلٍ وترحيبٍ بعد إعلان وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي استقالته من الحكومة اللبنانية، التي بررها بداعي درءِ الضرر عن لبنان واللبنانيين، ستعجَب للكمِّ الهائِل من السطحية بالتعاطي مع الحدث، بعضها قد يصيبكَ بنوباتِ ضحكٍ كأن يصف دعاة «لبنان الحر المستقل» هذه الاستقالة التي كانت بسبب «أزمة رأي» بأنها انتصار لمفهوم «لبنان الحر المستقل»! كيف؟ لا نعرف، ولا تفكر حتى بمحاولةِ المعرفة تحديداً عندما تكون السيادة مفصلة على الطريقة الطائفية، لكن أسوأها هي تلكَ التي تصوِّر الاستقالة كأنها خشبة الخلاص للبنان، بالذات عندما ترتكز هذه الفكرة على مغالطات نوجزها بما يلي:
أولاً: ربما قد يغيب عن ذهن المتَّكلين على الوصفةِ الفرنسية بأن ما تبقى للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في السلطة حسابياً أقل من ثلاثةِ أشهر، قبلَ أن تدخلَ فرنسا رسمياً معركةَ الانتخابات الرئاسية، من مرحلة اختيار المرشحين من بين الأحزاب وصولاً إلى انتخابات الدور الأول، ماذا سيفعل ماكرون في هذا الزمن القياسي؟ إما إن ماكرون يمتلك عصا سحرية قادرة على الحل لكن هذه العصا لم تسعفهُ بحلِّ مشاكلهِ الداخلية التي كادت تطيح به لولا فيروس كورونا الذي أنقذه، أو إن مشكلات لبنان أبسط بكثيرٍ من المتوقع لدرجة أن حلها ممكن بالمبادرة الفرنسية، فلماذا العويل؟!
بالسياق ذاته لا يبدو أن الوضع الانتخابي للرئيس ماكرون يسير باتجاهٍ جيد تحديداً أن استطلاعات الرأي لا تزال تلحظ تراجع شعبيتهِ وإعادةَ انتخابه تبدو حتى الآن موضع شك وإن كان من المبكرِ الحديث عنها، هو يبحث عن إنجازٍ ما، حتى حديثه الأخير للشعب الفرنسي الذي أراده كمجموعة من الوعود لمتضرري فيروس كورونا هناك من أدانه باعتباره نوعاً من الترويج الانتخابي، فكيفَ لمن لا يثق بهِ نصفَ شعبهِ على الأقل أن يتحول لـ«بابا نويل» الحلول؟
علينا التسليمَ بأن ماكرون لا يملك مفاتيح الحل في لبنان من دون أن يكون الحل شاملاً لملفاتِ المنطقة على الأقل، هذا مع التذكيرِ بأن لبنان الذي تُعتبر فيهِ السياحة موردهُ الاقتصادي الأول بات على شفا كارثةٍ اقتصادية والأهم هي كارثة اجتماعية يبدو التعتيم عليها جزءاً من استنزاف مقدرات هذا البلد، هذه الكارثة تتلخص بالمقولة الشهيرة «العرس في حرستا والطبل في دوما»، فإذا كان البعض يركز في حديثهِ حول هجرة السوريين، وهو أمر مقلق حكماً ولا يمكننا إنكارهُ أو تجميله، لكن هناك في لبنان هجرة من نوع آخر هجرة عائلية وبطرق شرعية، عائلات بأكملها باتت اليوم موجودة في بعض المدن الفرنسية، ما يميزها أنها بمعظمها من أصحاب الإمكانات المادية الذين تتيح لهم القوانين الفرنسية البدء بمشاريعهم الصغيرة بمعزل عن نوع الإقامة التي يمتلكونها، هل سيبدأ البعض بالالتفات لما يعني أن يكون البلد ليسَ في حالةِ حرب كما سورية، لكن الهروب منه بات أكثر من مجرد حلم!
ثانياً: بدَت الاستقالة التي تزامنت مع إعلان الخارجية الفرنسية تسمية الدبلوماسية بريجيت كورمي سفيرة جديدة لفرنسا في سورية فرصة للبعض لإعادة التذكير بالنفوذ السوري في لبنان، ولكن كما جرت العادة بطريقة لا تخلو من السذاجة، هناك من يربط عملياً بين الحدثين من جهةِ أن القيادة السورية طلبت من قرداحي الاستقالة مقابل خطوة انفتاح فرنسية تتمثل بتعيين السفيرة الجديدة.
مبدئياً إن كان الذي تسمونه النظام السوري المترهل قادراً حتى الآن على أن يتلاعب بالجميع ويمتلك أوراقاً كهذه فكيف تدَّعون اقتراب سقوطه؟ بالسياق ذاته لا نعرف كيف يتحدث البعض عما سموه «تسريب خبر تعيين السفيرة»! كأنه سبق استخباراتي، علماً أن جميع المراسيم تُنشر على موقع الجريدة الرسمية الفرنسية ويمكن لأي أحد الاطلاع عليه. النقطة الثانية لا تبدو سورية معنية من قريب ولا من بعيد بوجود سفير فرنسي من عدمهِ، ولا تبدو بالأساس مستعجلة لعقدِ صفقات كهذه، أما من يغمز لجهة تعيين فرنسا لسفيرة باستشارة دمشق من عدمها فإن الاتفاقيات الدولية تتطلب موافقة كل دولة على تعيين سفير دولة لديها في حال كان سيمارس عمله على أراضيها، وهذه الحالة لا تنطبق على السفيرة المعينة أقلهُ حالياً، لكن ما سر هذه الخطوة؟
ببساطة فإن الدستور الفرنسي يُتيح للرئيس التحكم والسيطرة على السياسة الخارجية، بما فيها اختيار وزير الخارجية ورسم السياسة الخارجية بالطريقة التي يراها مناسبة، وبطبيعة الحال فإن تعيين السفراء واختيارهم لا ينفصلان عن ذلك. هذا الاختيار كأنه اختيار ماكروني بحت ناتج عن التجهيز لمرحلةِ ما بعد الانتخابات، ولا صحة لما يتم تداوله عن دور ما للمخابرات الفرنسية بتعيين هذه السيدة التي عملت في القدس المحتلة، بل لو أن ماكرون يُصغي فعلياً لوجهة النظر الأمنية لعرف أن هذا التعيين يعني حرق هذه الشخصية لاعتبارات كثيرة تعرفها القيادة السورية. هذا الخلط لم يهدف فقط للزج بسورية في هذه المعمعة بل كان هدفه التصويب على مواقف أصدقاء سورية وتقديمهم كأشخاص يقدمون مصلحتهم الشخصية على مصلحة لبنان، لكن هل من عاقلٍ مازال يصدق أكاذيب كهذه؟ للأسف كثر!
ثالثاً: بالأمس أعلن إيمانويل ماكرون عن ثقتهِ بأن استقالة قرداحي ستفتح الباب لعودة العلاقات بين لبنان والسعودية، بل من الواضح أيضاً أن فرنسا تدفع بثقلها نحو ذلك، لكن هذا الأمر ليسَ كافياً، اتفقنا أم اختلفنا مع السياسة السعودية، لكن تحميلها وزر كل ما يجري في لبنان لدرجةِ أن رضاها سيحول البلد إلى سويسرا الشرق هو مبالغة ستعمق الأزمة. في السابق كان لبنان يسير بتوازن العلاقات السورية السعودية انطلاقاً من العمق العربي للبنان، اليوم حتى العمق العربي باتَ أعماقاً، لدرجة يجري فيها مثلاً تجاهل الدور التخريبي لقطر!
بالسياق ذاته، يبدو من المفارقة إعلان القضاء الفرنسي قبول دعوى ضد كل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وولي عهد الإمارات محمد بن زايد بتهمة (التعاون مع القاعدة في اليمن)، بالوقت ذاته فإن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يشكر قطر على دورها في مكافحة الإرهاب وهي التي تحالفَت مع جبهة النصرة الإرهابية التي اختطفت وقتلت عناصرَ الجيش اللبناني، هل إن قبول نوع كهذا من القضايا في القضاء الفرنسي والذي من الواضح أن قطر تقف وراءَ تمويلها هو جزء من الضغوط غير المباشرة التي يعمل عليها ماكرون لضمان تبدل الموقف السعودي؟ ماذا سيستفيد لبنان إذن؟
من الواضح أن كل ما يجري لا يبدو وضع الحل على السكة الصحيحة، فالوضع في لبنان يبدو أكثر تعقيداً من كل هذا العبث، والذي يدفع الثمن هو الشعب اللبناني، فانتظار ماكرون ومبادراته أو سفراءَ لهُ، هو أشبه برمي أنفسنا من الطائرة على أمل أن تتلقفنا الغيوم، يغرينا بياضها وكثافتها أحياناً لكننا لا ندرك أنها رخوة إلا عندما نعيش السقوط الحتمي، عندها لن تنفع الأموال الخليجية لأنها ليست أموالاً لإنقاذ الاقتصاد بقدر ما هي أموال تفيد بإنعاشه لا أكثر، ولن تنفع العبارات البرّاقة بما فيها عبارات السيادة والاستقلال وحرية الرأي، والبلد بات فيه حجم ما يعيشه من «سيادة واستقلال وحرية رأي» مكشوفاً، هذا السقوط لن يمنعهُ إلا أمر واحد: إياكم والتمرد على الجغرافيا!