من الطبيعي أن يلاحظ كل من يطلع على أسماء المئة دولة التي دعاها الرئيس الأميركي جو بايدين إلى ما يسمى بمؤتمر «قمة الديمقراطية» أن معظمها وبخاصة 90 بالمئة ممن يشارك من دول العالم الثالث في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا وبعض الدول الأوروبية، يعد من قائمة ضحايا الحروب الوحشية التي شنتها الولايات المتحدة على شعوب تلك الدول، بل إن عدداً من رؤساء وحكومات هذه الدول وما زال بعضهم في الحكم، هم من الذين اتهموا بارتكاب مخالفات في حماية حقوق الإنسان والديمقراطية وعملوا ضد شعوبهم بدعم أميركي علني وصارخ، فقد غزت واشنطن في الثمانينيات دولة غرينادا لأن الشعب اختار قيادة لا يريدها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان وقتلت القوات الأميركية أثناء تدخلها في العراق مئات الآلاف ونصبت حكومة عراقية هي اختارت وزراءها وكان معظمهم من العراقيين الذين يحملون الجنسية الأميركية وكانوا يقيمون فيها، وكذلك الأمر في أراضي يوغوسلافيا التي قتلت فيها الولايات المتحدة في التسعينيات عشرات الآلاف دون تمييز بسلاح الجو، ثم قسمتها على طريقتها ودفعت بالموالين لها لاستلام الحكم بعد ارتكابهم مجازر بحق شعوبهم، وهي التي كانت تصنع الانقلابات في دول أميركا اللاتينية وتدعم نظم الحكم العميلة لها وتدافع عن جرائم قادتها وحكوماتها وترفض وجود قيادات ثورية ديمقراطية انتخبها الشعب في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وسورية وإيران وغيرها من الدول التي فشلت بتغيير أنظمة الحكم فيها حتى الآن.
من العالم العربي والمنطقة لم يدع بايدين إلا العراق الضحية الصارخة للجرائم الأميركية ودعا إسرائيل بالطبع، وهي التي تحمل أكبر وأطول سجل لجرائم الحرب والإرهاب وتتنكر لحقوق شعب كامل داخل الأراضي المحتلة وخارجها.
ويبدو أن إدارة بايدين تسعى من وراء تنظيم هذا المؤتمر الذي حددت الأعضاء فيه إلى تحقيق عدد من الأهداف:
1- فرصة تحويله لأمم متحدة جديدة تخضع بشكل تام لسياساتها وأوامرها المباشرة باسم مزاعمها في «محاربة فساد أنظمة الحكم وضرورة فرض العقوبات على المسؤولين عن الفساد ومخالفة حقوق الإنسان من داخل هذه الدول ومن خارجها»، أي من الولايات المتحدة التي ستتولى فرض أوامرها بمعاقبة هذا الشخص أو ذاك وهذه الحكومة أو تلك بحسب ضمانها للمصالح الأميركية.
2- استخدام هذه القمة لتحويلها إلى كتلة سياسية في إطار الأمم المتحدة وتنظيم مواقفها بما يخدم مصالح الولايات المتحدة في مؤسسات الأمم المتحدة وقراراتها ذات الصلة بمزاعم محاربة الفساد والدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية.
3- تحويلها إلى إطار موحد في الحرب الباردة التي ستدشنها الإدارة الأميركية ضد الصين وروسيا الاتحادية وحلفائهما لنقل الحرب ضدهما من مجلس الأمن الدولي الذي تتمتع فيه روسيا والصين بحق النقض الفيتو إلى هذا النوع من الإطار الجديد الذي لا يتحكم بقراراته سوى الولايات المتحدة ولذلك استثنى بايدين دعوة أكبر قوتين كبريين إلى هذه القمة بل لم يطلب التنسيق معهما للإعداد لها علماً أن قادة الدولتين «أدانوا هذه القمة» ووصفوها «بمحاولة خلق حرب باردة تقسم فيه العالم إلى كتل متحاربة».
ربما تعمل الولايات المتحدة على تأمين مساعدات مالية من الدول الغنية لتطوير هذا الإطار ودعوة دول أخرى في الوقت المناسب للانضمام إليه بهدف عزلها عن الدول المناهضة للهيمنة الأميركية وسياساتها، لكن السؤال الذي يتعين طرحه هو: ماذا سيحمل مثل هذا المشروع الأميركي إقليميا لمنطقة الشرق الأوسط؟
يميل بعض الخبراء بشؤون السياسات الأميركية إلى الاعتقاد بأنه قد يخلق زوبعة لكنه من الصعب جداً توحيد المواقف فيه مع السياسة الأميركية لأن أوروبا نفسها تتولد فيها مصالح متناقضة داخلية وخارجية وإذا كانت الولايات المتحدة لديها مئة دولة في هذه القمة فإن نصفها تقريباً من الدول التي تشبه في دورها دولاً مثل ماكرونيزيا وسانت لوسيا وغرينادا وجزر السولومون وفانسانت وهي مجرد ديكورات لدول صغيرة جدا.
وبالمقابل ستظل معظم الدول الأوروبية تحدد سياساتها بطريقة تحقق فيها مصالحها على حساب المصالح الأميركية وبشكل يفوق في حساباتها أي مصالح أخرى فعالم الأقطاب المتعددة الذي يفرض نفسه الآن سيجعل من الصعب على الولايات المتحدة فرض كل مصالحها في حرب باردة تسعى إلى شق طريقها في هذه الظروف.
لن يكون مشروع قمة المئة دولة في أغلب الاحتمالات أكثر من ندوة توحي بوعود أميركية دون قدرة على تحقيقها.