شكلت تجربة الشيوعيين في الصين، البادئة منذ اثنين وسبعين عاماً في قيادة مسار التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على حد سواء، تجربة فريدة في نقل البلاد من واقع داخلي مغرق في الفقر الذي يستجلب الكثير من التخلف والتبعية، وكذا خارجي يعيش على هامش التحولات العالمية، إلى واقع آخر هو على النقيض من السابق، بحديه الداخلي والخارجي، صحيح أن الصورة العامة التي ترتسم بفعل عوامل، وتفاصيل أخرى دقيقة، ليست وردية تماماً، بمعنى أن الركون إلى قاعدة أساسية من نوع أن الصين اليوم تحتل المرتبة الثانية على سلم الاقتصادات العالمية لا يعطي المشهد الصيني روحية تبرز منها كل «العلل» التي يعاني منها الجسد الصيني، لكن الصحيح أيضا هو أن تلك الروحية تبدي حالة حيوية نشطة في معالجة تلك «العلل»، ولربما كانت السرعة، وكذا النجاحات في المعالجة، هي أكثر ما يقلق المتضررين من هذا الصعود الصيني الذي بات يسجل ككبرى التحولات الحاصلة على مجتمع في زمن لم يزد أمده بعد على قرن ناقصاً الربع.
قد يكون إيراد مثال لم يزل طازجاً حتى الآن كافياً للدلالة على تلك الحيوية ومدى سلامة «الكف الإلكتروني» الذي يعطي مؤشرات قاطعة على ما يجري في «غرفة الانفجار» التي تجري فيها عملية توليد الطاقة وصولاً إلى نقل هذي الأخيرة إلى أجزاء نقل الحركة، حيث التناغم هنا يرسم المسار العام لحركة العربة وثباتها على الطريق، ففي المرحلة الممتدة بين عامي 2015 و 2020 أطلقت قيادة الحزب «حملة القضاء على الفقر المدقع» في الصين، ومن خلالها جرى انتشال 100 مليون صيني من براثن العوز والفاقة، وكنتيجة نقلهم نحو حالة من الوعي جديدة تجعلهم في وضعية الداعم للتجربة، وهي بعيدة عن أن تكون «نافذة» يمكن للخارج الولوج منها لكسر هذي الأخيرة، كانت الحملة السابقة الذكر قد خيضت عبر ميكانيكية فريدة تكامل فيها عمل فرق الإحصاء وجمع المعلومات مع نظائرها في تحليل النتائج وصولاً إلى المعنيين بقراءة ذلك الكم الهائل الذي تراكم على ضفتي الفعلين السابقي الذكر، ومنه إلى وضع الآليات الكفيلة بإنجاح عمليات الانتشال التي كان نجاحها الحاصل يثير النشوة والقلق على ضفتي الداخل والخارج المتناقضتين بالضرورة تجاه مرامي عملية هي بحجم ما يجري على دولة أوروبية متوسطة كإسبانيا، أو إفريقية كبرى كمصر.
تشي مسارات النهوض الصيني بأن الآليات غير المحسوسة التي تعتمدها، وتعمل على تسويقها للخارج بطريقة جديدة تختلف عما سبق، تلك التي كانت تقوم على الاقتحام عبر بلدوزر الإيديولوجيا، فهي تتبنى رهاناً قوامه الأساس هو «كسر النموذج» الغربي الذي استطاع، ما بعد إسقاط النموذج الاشتراكي السوفييتي العام 1991 أن يكون وحيداً، أو هو بات النموذج الأمثل للكثيرين في بناء الثروة والقوة، وفي الآن ذاته إبراز صورة النموذج الصيني الذي لا يسجل تاريخه الممتد لآلاف السنين خروجاً لآلته الحربية خارج حدوده لنهب خيرات الشعوب بغية إثراء شعبه، ولا هو ذهب نحو فرض العقوبات على الأنظمة التي يرى أنها تنتهج سياسات لا تلبي مصالحه، بعكس النموذج الغربي الذي اعتاش خلال خمسة قرون ماضية على دماء وجهد الشعوب المغلوبة على أمرها، وهو إلى اليوم ما انفك يمارس شتى صنوف الإرهاب الاقتصادي عبر أنظمة عقوبات تجترحها مؤسسات عملاقة تلقى دعماً من أنظمتها يفوق ذلك الدعم الذي تلقاه نظيرتها المعنية بمواجهة الأوبئة والأمراض التي بات بعضها يهدد الحضارة البشرية برمتها على هذا الكوكب، وفي السياق، أي في سياق الرهان الصيني، إثبات أن النموذج الغربي هو «خاص» أكثر منه «عاماً»، بمعنى أنه قابل للنجاح في جغرافيا محددة ذات خصوصية ثقافية ومجتمعية محددة أيضاً، والأمر عينه لا ينطبق بالضرورة على شعوب تعيش في جغرافيا مغايرة في طبيعتها، وتحتضن تجارب لشعوب تختزن ثقافات مختلفة عن تلك التي نجح فيها ذلك النموذج.
يدرك الصينيون أن محاولة على درجة عالية من الخطورة، كمحاولتهم، لا يمكن لها أن تسير في مسارها الطويل الذي يفترض توافره لتمام نجاحها، من دون حرب باردة جديدة كتلك التي شهدها نظام القطبية الثنائي العالمي بين عامي 1945-1989، ولربما كان ذلك هو العقبة الكبرى التي تتلمسها بكين في أتون وصولها إلى «الحلم» الكبير، فجردة حساب متأنية لتوازن القوى القائم داخل مجموعة العشرين «G 20»، تلك التي تسيطر على ما يقرب من 75 بالمئة من التجارة، ورأس المال العالميين، ستوصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن 17 دولة، على الأقل، من بين تلك المجموعة سوف تتراصف في مواقفها مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين، بعضها بفعل تماهي المصالح، وبعضها بفعل السطوة الأميركية وضرورات المحافظة على استقرار بلدانها، والفعل يمكن له أن يشكل مقدمات لمساعٍ غربية وتمنيات تدفع باتجاه تكرار سيناريو سقوط «الحلم» السوفييتي، الأمر المستبعد.
ما تريد هذه السردية السابقة قوله هو أن الحلم الصيني يمتلك من المشروعية، بشتى صنوفها، ما يجعل القيمين عليه موقنين بنجاحه، لكن ذلك لا يعني أنه سيمضي هكذا من دون عقبات ستأخذ في مسارها طبيعة حركة كرة الثلج التي يتنامى حجمها كلما اقتربت من وصولها إلى خط النهاية، والمؤكد أن التناقض القائم الآن ما بين «مشروعية» الحلم وحركة كرة الثلج التي ستسير وفقها كتل المعوقات، ثم المرحلات التي سيمر بها مسار ذلك التناقض الطويل، سوف يقود حتماً إلى تحديد النتائج التي سيفضي إليها في نهاية المطاف.