ثقافة وفن

هذي حكايتي وتوثيق التراث الشفوي … «وثيقة وطن» تعزز الحكاية الواقعية في تراثنا الشفاهي

| الوطن

«تعنى مؤسسة وثيقة وطن بالتاريخ الشفوي، وهو علم حديث، الهدف منه استكمال التاريخ المكتوب، وإضافة ذاكرة المهمشين والحياة اليومية والأحداث التي لا تذكر عادة في كتب التاريخ الرسمي التي تركز على الأحداث الكبرى السياسية والاقتصادية والعسكرية، فالتاريخ الشفوي هو التاريخ الإنساني بجوانبه الاجتماعية والثقافية إضافة إلى الآثار الاقتصادية والسياسية وكذلك المعرفية».

بهذه الكلمات تقدم الأستاذة الدكتورة بثينة شعبان رئيس مجلس أمناء وثيقة وطن للكتاب الصادر عن الوثيقة، والذي يوثق الدورتين الأولى والثانية من مسابقة هذي حكايتي وأقف عند هذا النص المقبوس من المقدمة لأنه يظهر الكثير من القضايا التي توضح أسباب المسابقة، وخصائصها وغاياتها.

1- العلم الحديث: من خلال المعرفة والاطلاع تبين د. شعبان بأن التاريخ الشفوي هو علم حديث، والذي يستوقف القارئ هنا أن هذا الفرع هو علم قبل أن يكون أدباً، ويمكن أن يضحى ببعض الخصائص الفنية فيه إكراماً للناحية العلمية التوثيقية، ومعلوم أن الأدب لا يعتمد التوثيق منهجاً بشكل عام، وإنما يعتمد على التخييل وهذا يدخل التراث الشفوي التوثيقي في الميدان العلمي غير البحث، وهذا العلم ليس قديماً، وإنما علم حديث، فمع أن المرحلة الشفاهية كانت سابقة على التدوين والكتابة عبر العصور، إلا أنها حديثاً دخلت ميدان التدوين والتوثيق، وهذا يزيل أي لبس في نشوء علم التوثيق الشفاهي وحداثته.

2- استكمال التاريخ المكتوب، فالتاريخ المكتوب والذي وصفته الدكتورة بالتاريخ الرسمي يعنى بالخطوط العريضة للتاريخ، والمراحل التي تمر بها الشعوب ولكن هذا العلم يستكمل، وبمعنى آخر، فإن هذا التاريخ الرسمي المكتوب يقدم بطريقة ما، تجعله غير مكتمل، فيأتي علم التوثيق الشفاهي ليرمم النقص الذي ينتاب التاريخ المكتوب من زوايا مهمة للغاية، وإن كنا لا نعطيها الأولوية والأهمية.

3- حكايات المهمشين والحياة اليومية، ما من تاريخ مكتوب يلتفت إلى تاريخ المهمشين الذين يشكلون مادة التاريخ الأولى، ومن هنا تأتي أهمية بعض الكتب القليلة في تاريخنا مثل (حوادث دمشق اليومية) للبديري الحلاق، هذا الكتاب الشفاهي في الأصل، والأهم أن كاتبه كان حلاقاً، فالكاتب من المهمشين، وحكاياته التي يكتبها يخصّ بها المهمشين، لغته كانت عادية وضعيفة أحياناً، وأحداثه من يوميات دمشق في زمنه، ولكنه يحتوي ما لم تذكره كتب التاريخ الرسمي فقد لقي عناية كبيرة من الباحثين الذين رأوا فيه سداً لثغرات وخلل ونقص اعترى كتب التاريخ الرسمي! وكم من مهمشين ضاعوا في ثنايا الأحداث وهم يملكون حكايات أغنى مما جاء في كتب التاريخ الرسمي؟! ومجريات الحرب في سورية طالت هذه الشريحة الواسعة من الناس الذين كانوا أبطالاً، وهم من المهمشين، لذلك كان الالتفات إلى الأدب الشفاهي حاجة وضرورة لتوثيق الحياة اليومية، إضافة للتاريخ المكتوب الذي له أربابه وأصحابه.

4- الأحداث والإنسان: الأحداث في حياة الأوطان نوعان، أحداث عامة يظهرها التاريخ الرسمي المكتوب وأحداث يومية وحياتية اجتماعية وثقافية واقتصادية يعيشها الناس العاديون المهمشون الذين لا صفة لهم في الميدان الرسمي فهم ليسوا كتاباً أو مثقفين وإنما بسطاء، لكنهم يحملون هموماً وأحداثاً لا يلتفت إليها التاريخ الرسمي، وقد لا يراها، وقد لا يجرؤ على ذكرها وتدوينها. وفي الوقت نفسه تشكل هذه الحكايات ميداناً خصباً أغنى بكثير من الذين يحتوي التاريخ الرسمي.

هذي حكايتي والمشروع التوثيقي

واستكمالاً لفكرة التاريخ الشفاهي وتوثيقه تتابع الدكتورة بثينة شعبان قائلة «مشروع توثيق شهادات الحرب على سورية، ويشمل المشروع توثيق روايات حول مختلف جوانب الحياة اليومية… وفكرة هذي حكايتي تساهم في إيصال فكرة التوثيق إلى المجتمع، وتشجيع على فكرة كتابة المذكرات، وهي بالنسبة للمؤسسة إحدى الطرق للوصول إلى شهود على وقائع التاريخ المعاصر لسورية».

الشهادات الشفاهية قد لا تكون قصة، لكن قصة هذي حكايتي نشأت للوصول إلى مذكرات وحكايات لشهود على وقائع التاريخ السوري، وفي ردّ هذا الكلام على سابقه، نعرف معنى الاعتناء بالمهمشين الذين يمثلون أساطير في البطولة، ويحملون تاريخ سورية في عقولهم، ولكنهم ليسوا كتاباً من خلالهم يتم جمع قصص تاريخ سورية المعاصر، وربما جاءت فكرة هذي حكايتي في محاولة لترجمة التوثيق الشفاهي وتظهيره للناس، ليدركوا قيمته وأهميته، ويتفاعلوا معه، فكثير من الناس لا يدركون أهمية التوثيق الشفاهي، ولا يعطونه الأهمية التي يستحقها.

وتختم الدكتورة شعبان بآلية التعامل مع النص الشفاهي المقدم إلى مسابقة هذي حكايتي «حافظ المحررون على روح النص الوارد ومفرداته، ولم يتدخلوا إلا في حدود إبراز المعنى باللغة العربية السليمة، وبأسلوب الكاتب نفسه، لتكون القصة أقرب إلى بساطة الكاتب، فمعظم المشاركين ليسوا من المتمرسين بالكتابة، وبعضهم جاءت كتاباتهم بالعامية، وأرسل بعضها بتسجيل صوتي».

من الضروري أن نقف عند هذا النص لندرك أن التوثيق الشفاهي مقصود لذاته، ولما فيه من ميزات خاصة، وما أشرت إليه من البديري الحلاق وعاميته وبساطته تم استدراكه بعد زمن، لكن هذي حكايتي تقدم النص الشفاهي ببساطة مطلقة، وتقوم بتدوينه مع المحافظة على الأسلوب والأفكار ليكون رديفاً للتاريخ الرسمي، وسجلاً موثقاً لتاريخ سورية المعاصر قبل أن تأتي الرياح وتجرف هذه الحكايا بما فيها من بطولات وآلام وغصص..

«وثيقة وطن» والتوثيق الشفاهي

مشروع مؤسسة طموح، يجب أن نقف عند تفاصيله لنعرف أهميته، خاصة أنه يقوم على كادر متخصص يعمل بشكل دؤوب ليؤسس لقاعدة بيانات واسعة ونادرة تشكل مدخلاً ومصدراً للباحثين والمؤرخين والأدباء.

ليس حكايات بلا طائل، بل حكايات يرويها أبطالها تتفوق أحياناً على ما يكتبه المؤرخون والأدباء، ليست نصوصاً أدبية، بل هي حياة يعيشها أبطالها السوريون على الأرض التي وهبوها ما لديهم ليتمكنوا من التجذر فيها.

نمت فكرة التوثيق الشفاهي ليصبح المشروع بحجم الإنسان السوري وآلامه وأحلامه وما عاناه خلال هذه السنوات، خاصة إذا ما وضعنا هذا المشروع إلى جانب مشروعات أخرى تعمل عليها وثيقة وطن لتوثيق حاضر سورية وحضارتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن