الصراع العالمي ليس بين الدول المتوسطة القوة أو الضعيفة أو المستضعفة، إنما بين الدول القوية التي تريد قضم بعضها، أو تجيد تقدّمها، وتحصره ضمنها.
هذا ما تفعله الدول العظمى وضحاياها دائماً الدول القابعة تحت عروشها، لذلك نجدها تبحث عن نظام عالمي جديد، يحدد هيمنة كل واحدة منها، يظهر ولكن ببطء شديد، تنتشر معالمه وقواعده، لكن بأشكال خجولة، تتحرك من دون استقرار، والأسباب تتجلى في الاضطراب الاقتصادي العالمي وتوهان الوضع السياسي الذي ضعفت خيوطه، وأصاب كثيرها التلف وانحصار الصراع من أجل ذلك بين الأمريكي والصيني والروسي بشكل عام، وعلى الصعد كافة، والأمريكي والصيني بشكل خاص، والسبب الرئيس لهذا كله الاقتصاد، ومن سيتحكم به، الصين والحاجة العالمية لاقتصادها، أم أمريكا ومنتجها الخطير؟
وهنا أؤكد انتهاء سيادة القطب الواحد رغم ما لديه من فائض في القوى، وتشتت فيها، استفادت منه الإستراتيجية الصينية الهائلة والزاحفة بصمت لتعزيز محاورها الاقتصادية أولاً والسياسية ثانياً والعسكرية بعدهما، موحدة إياها ضمن منهج كان خفياً، وغدا أكثر من واضح، يفرض حضوره بقوة، ليس بين المحيطين الهندي والهادي، إنما يسير إلى الأطلسي بانتظام والتزام شديدي الفعالية.كسر مفهوم القطب الواحد وحتى القطبين القديمين، لنشهد حراكاً أمريكياً متسارعاً لإنشاء حلف استثنائي يضم اليابان وأستراليا والهند، غايته محاصرة الصين أولاً، ودعم الدول الصغيرة التي خرجت من دائرة الاتحاد السوفييتي، والتي تحيط بروسيا بقوة لمشاغلتها وإلهائها كمحاولة لإبعاد روسيا عن دعمها للصين.من يحتوي من الصين تسابق وجودها في عملية إثبات وجود واختراق للعالم، مستندة إلى تعاونها مع روسيا وأمريكا بأحلافها الأمنية والعسكرية، وإلى حلفها الرئيس مع بريطانيا وضغطها على الأوروبيين الذين يؤمنون بسياسة احتواء الأزمات، وخوفهم من الحروب، لأن مصالحهم الاقتصادية بدأت تنهار، حتى ضمن قارتهم، فهم الآن في مرحلة البحث أيضاً عن وجودهم، الكل في القوى العظمى الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن والسبع الاقتصادية في حالة توهان وبحث.
الكل مرتبك ومرتعد من القادم، وربما الحرب الباردة أفضل المساوئ التي يفكرون بالأخذ بها، ومن خلالها يبحثون عن تأسيس لنظام عالمي جديد.
الأجواء العالمية مشحونة بالتوترات التي تسبق الحروب، مع فارق أن شحناتها باردة، هذه التي تعتمد سياسة التدمير الممنهج على شكل الاستعمار الأبيض، لأنها ترتدي لون الثلج الذي لا تعلم ما تحته إلى أن يذوب، وللعلم إنها إذا اشتدت برودتها تحرق وتقتل كما هو حال سخونتها، لذلك نجد أن العالم برمته يضطرب من الوصول إلى الحرب الباردة، وخصوصاً في منطقة آسيا والمحيطين الهادي والهندي، فإفريقيا بوضع منتهٍ، وأمريكا اللاتينية تحت السيطرة، إذاً الخوف من الصيني والروسي بعده من تشكيل جغرافيات واللعب على أوتارها على أساس جيو سياسي، أي تقسيم الدولتين الرئيستين إلى دول عرقية وقومية وروحية وإثنية، هذا الذي اعتبره الغرب من أكبر أخطائه القديمة، لأنه قسم الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى أوروبا، وغفل عن هاتين الدولتين اللتين تحولتا إلى دولتين عظميين، وها هو يعاني منهما، ولذلك يضغط بكامل قواه عليهما، من خلال محيطهما أولاً، ومن ثم من داخلهما.
أعتقد أنها محاولات محكوم عليها بالفشل، وهي ذاتها ستفشل الحرب الباردة التي بدأت، ومعها سننتظر قيامة نظام عالمي جديد، الذي بدؤوا به في الشرق الأوسط عبر ما أطلق عليه الربيع العربي، والذي قدّم له على أنه شرق أوسط جديد.
حرب عالمية باردة لا نريد أن تشتد برودتها، لأن نتائجها كارثية على جميع الشعوب، وإذا حدثت فسنشهد تطورات خطيرة اقتصادية وسياسية، من شأنها أن تقلب كل موازين القوى، وأن تضع علامات استفهام كبرى أمام فرص انعتاق العالم من أزماته، وخصوصاً في ظل ما يجري.
من يتحمل المسؤولية ونحن في حالة عالمية مانعة، تؤكد وتنفي في آن تفاقم تحولات المشهد وتضبطه بخبث ومكر شديدين؟ فهل ستلد هذه الحرب نظاماً عالمياً جديداً؟ أم إننا ذاهبون إلى استمرار الكوارث التي ظاهرها طبيعي وجوهرها ملتهب؟
من دون أدنى شك وجدت فكري يعبّر عما يقرؤه، فأكتبه إلى حدٍّ ما بواقعية، ومعها أؤكد أن الحرب الساخنة لم تنتهِ، والحروب الباردة كلما اشتدت برودتها أظهرت خطورتها أكثر، وحروقها أقوى.