دائماً ما أُفكِّر، لماذا علينا أن نكتُب؟ تحديداً إن الكتابةَ لا تجلب إلا العدَاوات، فقط عبِّر عن رأيك ككاتب أو صحفي في أي مسألة، وستنهالُ عليكَ العداوات من كلِّ حدبٍ وصوب، والاتهامات التي قد تبدأ بالجهل وتنتهي بالعمالة.
حتى لو تمسكنا بفكرةِ الكتابة كمبدأ، فلماذا التمسك بالكتابة عن الشأن العام، أليسَ هناكَ شؤون أخرى تستحق أن نتفرغَ لها؟ أليسَ الحديث عن بطاقةِ عبورٍ إلى قلبِ أنثى اعتراها الحب أهم من الحديث عن البطاقة الذكية، ورسالة حبٍّ ووعدٍ تطلقها ثلاثينية غزا الشوق محيَّاها حتى جفَّت شفتاها، أهم من قنطارِ وعودٍ يطلقها الفريق الاقتصادي؟ لماذا لا يغريكَ جسدَ أنثى تتراقص جغرافيَّتها على إيقاعِ نهدٍ لا تشبههُ سوى رحلتَي الشتاء والصيف، كما يغريك تراقص التصريحات الجيبوليتيكية؟
بعد أن اتخذت قراري بانتهاج شكلٍ آخر للكتابة، غفوتُ، حلمتُ بأني تدمريٌّ يجلس إلى أنثاه تحت ضوءِ السراج، هنا لا تقنين، قبَّلتني سحَرَاً، حتى كأنها لا تكترث لما تبقى في رصيدها من قُبلٍ، داعبتُ ضفائرها حتى ظننتها حَبْلاً موصولاً بين سماءِ الحب وأرض الرغبة، تهتُ بينهما كما تاهَ ذاكَ الذي يسأل:
ما لون التفاحة التي أكلَها سيدنا آدم؟ لا لشيء فقط لكي آكلَ منها كلما غزا الشوق نَهَمي للحقيقة.
نظرتُ إلى حائطٍ خلفها، وجدت منحوتة لحمامةٍ تدمع وقد أخفت تحتَ جناحيها صغارها لكن أحدهم بدا كأنهُ ميِّت، خلفَ الحمامة تجسَّدَ رجل يحمل كاميرا بيد وسيفاً بيده الثانية، وهل عرف أجدادنا التدمريون الكاميرا؟ ما هذا حتى الهروب إليهم لم يعد ينفع؟
شعرَت أُنثايَ بأن تضاريسَ أخرى سرقتني منها، وبهدوءٍ يشبه الجمرَ تحت الرماد سألتني: بماذا تفكر؟
سؤال صعب، لكني عدتُ إلى واقعيتي وسألتها: ما هذا الذي بين يدي الرجل؟ وقبل أن تجيبني صوت ما أيقظني، حاولتُ جاهداً تجاهل ذاك الحلم، لكن شيئاً واحداً بقي عالقاً في ذهني، منحوتةَ ذاكَ الذي يحمل الكاميرا والسيف بالوقت ذاته؟
مع عودتي إلى الواقع، فهمت ما الذي أرادَ أجدادنا التدمريون إيصالهُ لنا، الكاميرا والسيف كلاهما يقتل، قد تكون تلك الحمامة قد نجَت من السيف لكنها ماتت لأن هناك من تاجرَ بقصتها، ترى هل كانت راضية عندما تم تصويرها؟ لربما كانت الصورة مفبركة، تحديداً إن زمن الفبركات كان ولا يزال ملاذاً عند البعض للهروبِ من الحقيقة، ثم من قال إن الإنسانية تتجزأ؟ على الأسوار التدمرية هناك كل يوم مئات الصور التي يمكن للبعض أن يتاجرَ بها، لكنها الانتقائية المقيتة لا أكثر!
عدتُ إلى الواقع محتاراً، قلتُ في نفسي أن أكذبَ على النساء أهونَ من الكذب في توصيف الواقع حتى لو كان الذين من حولك يكذبون حتى في النشرة الجوية فما بالك بنشرات الأسعار؟ موهبةَ التلاعب بالكلمات لقول كلام الغزل في النساء أهون من التلاعب بجراح الأطفال وسرقةِ ابتساماتهم، أعتذر لا مكان لدي لكلام الحب، وما ستجره الكتابة عليك هو دليل على أنك تقف في المكان الذي يجب أن تقف فيه، خذوا كاميراتكم ودجلكم واتركوا لي وطني مع جراح تلك الحمامة وعيني تلك التدمرية، من قالَ إن نزار هو الوحيد الذي يعرف ماذا تعني الغاردينيا في عتمةِ شعرٍ.. تدمري!