لا تخلو دورية سياسية أميركية من أبحاث أو دراسات عن الصين، آخرها مثلاً ما نشرته دورية «الفورين أفيرز» من دراسة بعنوان «النظام العالمي الجديد لشي جي بينغ: هل تستطيع الصين إعادة تشكيل النظام الدولي؟» كتبتها اليزابيت ايكونومي، وفيها تحاول القول إن هناك اختلافاً بين القيم الأميركية، والقيم الصينية، وإن المشروع الصيني لتسيد العالم فاشل حسب زعمها، لتقول: عليكم اتباع النموذج الأميركي فقط، وهو النموذج الاستثنائي كما تؤمن النُخب الأميركية، وتحاول الترويج له عالمياً باعتبار أنه نموذج عملت على فرضه الولايات المتحدة تارة بالحديد والنار، وتارة بالقوة الناعمة بهدف أمركة العالم والمجتمعات عبر «الهندسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية»، وهي تجارب فشلت على الأقل في منطقتنا في أفغانستان والعراق وغيرها، وفي مناطق أخرى في العالم بدأ التأفف من نمط الهيمنة الأميركية التي لا تقبل إلا بالتماهي مع مصالحها وتنفيذ سياساتها، وهو ما بدا مؤخراً من خلال ما سُمي «قمة الديمقراطية» التي دعا لها الرئيس الأميركي جو بايدن، فأراد القول للعالم إن هناك عالمين: عالماً ديمقراطياً! وعالماً استبدادياً، وهي الثنائية نفسها التي سادت في مرحلة الحرب الباردة، ثم اخترعت أميركا لنا موضوع مكافحة الإرهاب لتصل الآن إلى خلق مواجهات مع روسيا والصين، وما تسميه الأنظمة الاستبدادية من دون أن تقتنع أن من حق كل شعب أن يطبق النظام الدستوري والسياسي الذي يوائم تاريخه، وعاداته، وتقاليده، وتركيبته الديمغرافية، وموقعه، وحاجاته المتعددة، إذ ثبت أن تصدير النموذج هو أمر فاشل، وأن عدم مراعاة مصالح الدول والشعوب لن يقود إلى تحقيق علاقة متوازنة في هذا العالم.
ضمن إطار هذه المقاربة لم يستطع الأميركيون هضم العالم المتعدد الأقطاب مع بروز دور روسيا والصين، كقوى صاعدة في العالم، والقضية بالنسبة للصين مثلاً ليست قضية هيمنة على الآخر، وليست قضية صراع حضارات كما أراد بعض فلاسفة واشنطن أن يقدموها لنا، وإنما ما قاله الرئيس الصيني شي جي بينغ في خطابه أمام منظمة اليونسكو في آذار 2014 حينما اقتبس مقولة فيكتور هوغو: «هناك احتمال أكبر من البحر، وهي السماء، وهناك احتمال أكبر من السماء، وهي الروح البشرية، في الواقع نحن بحاجة إلى عقل أوسع من السماء عندما نقترب من حضارات مختلفة… الحضارات مثل الماء ترطب كل شيء بصمت…»، هكذا تنظر الصين منطلقة من تاريخها الحضاري وفلسفتها العريقة، ومن عادات وتقاليد الأمة الصينية، وما يؤكد ذلك أن الحزب الشيوعي الصيني الذي يقود الأمة الصينية بكفاح مستمر منذ مئة عام، يعمل بين فترات زمنية مختلفة على إعادة قراءة تجربته، وإجراء تقييم لها بما في ذلك الأخطاء التي يراها ثروة نفيسة، كما التجارب الناجحة وفقاً لتعبير «دينغ شياو بينغ»، والحقيقة أن الحزب في الصين في آخر وثيقة أقرتها لجنته المركزية في شهر تشرين الثاني 2021، أولى اهتماماً بالغاً لتلخيص التجارب التاريخية، وذلك بهدف جعل جميع أعضاء الحزب، ولاسيما كبار كوادره يتوصلون إلى اتفاق على معرفة المسائل الأساسية للثورة الصينية، وتعزيز التضامن داخل الحزب بهدف الدفع قدماً بتطور الصين وشعبها باعتبار أنها القضية الأهم، الأمر الذي يؤكد عليه قادة الحزب الشيوعي الصيني دائماً.
هذه الوثيقة المهمة تناولت تاريخ الحزب قبل تأسيس الصين الجديدة، ولخصت أهم الدروس التاريخية، وأعطت تقييمات لبعض الأحداث والشخصيات المهمة، وخاصة ما يتعلق بماو تسي تونغ وأفكاره، وأين أصاب وأخطأ، وتحقيق الإجماع داخل الحزب كله، والدفع بعمليات الإصلاح والانفتاح، وبناء التحديث الاشتراكي بالشكل الأفضل.
وحسب هذه الوثيقة المهمة التي صاغتها كوادر الحزب الشيوعي الصيني بمختلف مستوياتها بما في ذلك قدامى الحزب، وأضيفت لها آراء مختلف الأحزاب الأخرى، ومسؤولي اتحاد الصناعة والتجارة لعموم الصين، وممثلي الشخصيات اللاحزبية، وهو نموذج لطريقة تعاطي الحزب الشيوعي الصيني مع مختلف القوى الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وبالتالي فإن القضية ليست استبداداً على طريقة وصف واشنطن، وإنما إدارة منسقة تأخذ بالاعتبار آراء ومقترحات مختلف فئات المجتمع، وهذا جانب مهم لابد من إبرازه، وأما محتوى الوثيقة فيشمل ما يلي:
– التركيز على مرحلة تحقيق الانتصار في الثورة الديمقراطية الجديدة عبر تحليل تاريخي لمراحل نضال الشعب الصيني ما قبل تأسيس الجمهورية، حتى وصول الحزب للسلطة، بما في ذلك ما يسميه الصينيون مرحلة الإهانة والإذلال التي مضت إلى غير رجعة، أي مراحل الغزو الأجنبي.
– مراحل الإنجاز الاشتراكي، وتوطيد السلطة الوليدة، وانتقال الصين من بلد زراعي فقير متخلف كثير السكان، مع إبراز الاتجاه الاشتراكي الذي يرى الصينيون أنه لا يمكن تنمية الصين إلا بالاشتراكية.
– تناول مرحلة الإصلاح والانفتاح والتحديث الاشتراكي، حيث تبرز الوثيقة دور ثلاث شخصيات شيوعية صينية هي دنغ شياو بينغ، جيانغ تسه مين، هو جين تاو، وهي الشخصيات التي قادت عملية الإصلاح، وقدمت نموذجاً رائداً للعالم، مع تأكيد الحزب أن الإصلاح والانفتاح إجراء حاسم لا رجعة عنه، والعبرة في النتائج.
– الإشارة لمفهوم «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية» بهدف بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وتتحدث الوثيقة عن 13 مجالاً حققتها قيادة الحزب، وهي: قيادة الحزب الشاملة، انضباطية صارمة، البناء الاقتصادي، تعميق الإصلاح والانفتاح، البناء السياسي، حكم الدولة وفقاً للقانون على نحو شامل، البناء الثقافي، والاجتماعي، البناء الحضاري الايكولوجي، بناء الجيش وحماية الأمن القومي، والتمسك بمبدأ دولة واحدة ونظامين.
– هناك جزآن يتعلقان بالمغزى التاريخي لكفاح الحزب والتجارب التاريخية الممتدة لمئة عام، ومنها مثلاً وهذه نقطة مهمة، موضوع: وضع الشعب فوق كل شيء، والابتكار النظري والجرأة في النضال، وهاتان نقطتان بارزتان ومهمتان.
– الجزء الأخير من هذه الوثيقة يركز على الاستمرار بالكفاح بجد وإصرار، والارتباط بجماهير الشعب، ارتباط اللحم بالدم، ومواصلة إتقان الأعمال في مجال تحقيق المصالح الأساسية للأغلبية الساحقة من أبناء الشعب، وحمايتها وتطويرها.
إن قراءة هذه الوثيقة المهمة ليست بهدف كتابة مقال دعائي لأحد، بل بهدف الاستفادة من تجربة الحزب الشيوعي الصيني بالنسبة لنا، وقراءتها بعناية ودقة، وأخذ الدروس المستخلصة، والتجارب القابلة للتطبيق، فالصينيون يرون أن من شأن المصيبة أن تساعد الإنسان على البقاء، ومن شأن المتعة أن تؤدي بالإنسان إلى الموت.
إن ما مرت وتمر به بلدنا لا يجب أن يجعلنا نستسلم للواقع القاسي والصعب، وهو أمر أثبته الشعب السوري بعناد، وصلابة، ولكن في الوقت نفسه فإن الاسترخاء أيضاً مضر وكارثي، وخاصة حينما لا نقرأ الواقع بعناية ودقة.
الاستفادة من تجارب الشعوب التي حققت نجاحات مذهلة مهمة للغاية، وخاصة الصين التي وصفت ما حدث فيها خلال العقود الماضية بأنه «زلزال» بالمعنى الإيجابي، حيث تحولت الصين لأكبر مختبر في العالم للإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية في العالم، من هنا يجب أن نقرأ هذه الوثيقة المهمة، ونعمل على الاستفادة منها حيث يمكننا ذلك، وخاصة أن الصين بقيادة الحزب الشيوعي الصيني لا تعمل على تصدير تجربتها على النمط السوفييتي، ولكنها منفتحة على كل من يريد أن ينقل تجارب ناجحة، ويتعلم، ويستفيد، فالحضارة الإنسانية تتفاعل وتستفيد من بعضها بعضاً، ولا تتناقض وتتصارع كما يريد الأميركيون أن يصوروا العالم لنا، والعبرة في الشوط الأخير من الرحلة فهو الأصعب.