«قدودنا إلى التراث الإنساني» … فنانون مخضرمون ويافعون يطربون في دار الأسد
| وائل العدس- تصوير: طارق السعدوني
صحا القدّ في كفّ حلب حين غفت باقي الفنون في كفّ العالم، ولا أحد يعلم كيف اختبأ بين أمتعة القادمين إلى المدينة للتجارة، ولا كيف نبتت له أجنحة مثله مثل الفراشات التي غزلت طريق الحرير خيطاً فخيطاً ودرباً فأخرى، منذ ذاك الحين كانت كل دروب الحب والفن والثقافة والتجارة والسحر الجميل تؤدي إلى حلب كما يؤدي شروق الشمس إلى صبح جديد.. وتكوّن القدّ من حياة الناس وتوقهم إلى التعبير عن حلو أيامهم ومرّها، وإن كان في بعض الأعراف يقال: «للناس مقامات» يخرج الحلبيون بعلم آخر مفاده أن «للحياة مقامات» تُعاش في القدود.
بهذه الكلمات افتتحت الزميلة ديالا حسن الاحتفالية الخاصة بإدراج القدود الحلبية في التراث الإنساني في اليونيسكو.
وبعد أن أطربت القدود الحلبية أجيالاً متعاقبة في سورية والوطن العربي والعالم، وانطلقت لتعتلي المنصات العالمية، أضيء مساء الجمعة مسرح الأوبرا في دار الأسد للثقافة والفنون بحفل أقامته الأمانة السورية للتنمية ووزارة الثقافة بعنوان «قدودنا إلى التراث الإنساني».
أمسية طربية
بدأت الأمسية بعرض فيلم خاص عن ترشيح عنصر القدود الحلبية في منظمة اليونيسكو لتسجيله على القائمة التمثيلية للتراث الإنساني اللامادي لعام 2021.
وحضر الأمسية الطربية عدد من الوزراء، إلى جانب عدد من أعضاء القيادة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأعضاء مجلس الشعب، وأعضاء من السلك الدبلوماسي وجمهور غفير.
أحيت الأمسية الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية بقيادة المايسترو عدنان فتح الله، وبمشاركة موسيقيين قدموا من المحافظات السورية جميعها؛ مطربون مخضرمون، ومغنون أكاديميون، ويافعون شباب يتلقون علوم الموسيقا من المعاهد الموسيقية السورية العريقة، حملوا على عاتقهم إحياء تراث بلدهم بأصواتهم ليبقى إرثاً تتناقله الأجيال، مؤمنين أن صون التراث المادي واللامادي واجب ومسؤولية الجيل الحالي ليجعل منه تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً، والحفاظ على القدود الحلبية بوصفها عنصراً من عناصر التراث اللامادي الغني والحي الذي يميز الفن السوري ويجعله متفرداً.
واختارت الفرقة تقديم أشهر القدود المتداولة والمحفوظة في ذاكرة الشعب السوري حيث بدأت برنامجها مع اليافعين المشاركين في الأمسية وهم عبد الرحيم الحلبي وعمر الشالط وزياد أمونة وحمزة جمرك فقدموا وصلة قدود على مقام الحجاز وتضمنت أداء أغنيات «هالأسمر اللون» و«يا مايلة عالغصون» و«البلبل ناغى» و«لولو وبلولو شلة حبيبي» و«قدك المياس».
وفي الجزء الثاني من الأمسية التي شارك فيها المغني الشاب محمود الحداد الذي أدى مع الفرقة وصلة من القدود على مقام الحجاز تضمنت أغنيات «يا غزالي كيف عني أبعدوك» و«ملكتم فؤادي» و«من عجبي» و«يلاه من نار الهجران» و«هيمتني».
وصلة من القدود على مقام الصبا قدمها المطرب القدير ابن دمشق خالد أبو سمرة مع الفرقة حيث أدى قدوداً من مختلف المحافظات وهي «ع اليانا اليانا» و«يا هويدلك ياهويدلي» و«هالله يا جملو» و«يارب ياعالم بحال عبدك» و«سكابا يا دموع العين» و«ما أسعدك صبحية».
وكان للمطربات دور في تقديم القدود السورية أو كتابة الشعر لها عبر فترات تاريخية مختلفة تحية لمطربات سورية بصوت المغنية الأكاديمية ليندا بيطار التي قدمت وصلة منوعة من القدود وأدت فيها «أنا في سكرين» و«العزوبية» و«لرسل سلامي لسالم» و«بالي معاك» و«تحت هودجها» و«آه ياحلو يا مسليني».
ابن مدينة حلب المطرب صفوان العابد قدّم مجموعة من القدود على مقام البيات وهي «أول عشرة محبوبي» و«ليموني ع الليمونة» و«القراصية» و«زمان زمان» و«زوالف يا بو الزلف» و«أمن قلبي أمن» و«ماني يا حبيب ماني» و«الدلعونة الحلبية».
وفي الجزء الأخير من الأمسية أدى جميع المشاركين وصلة مشتركة على مقام الراست وتضمنت «يا طيرة طيري يا حمامة» و«والنبي يمه» و«مالك ياحلوة مالك» و«صيد العصاري» و«يا مال الشام».
أجنحة الإبداع
وفي كلمة لها، أوضحت وزيرة الثقافة د. لبانة مشوّح أنه من حلب انطلقت القدود لتشكل عنصراً جامعاً يكمل نسيج هويتنا الوطنية الغنية، ثم حلقت بأجنحة الإبداع لتنشر شذاها في الأسماع والقلوب قبل أن تأخذ طريقها إلى العالمية، وتابعت: إن قدودنا غدت تراثاً إنسانياً مسجلاً فهي اليوم محصنة هويتها، مدموغة بالدمغة العربية السورية الأصيلة، وإن من نتائج وفضائل تسجيل القدود الحلبية على لائحة التراث الإنساني أن هذا التراث غدا أمانة في أعناقنا، لننقله كالدرة الثمينة إلى الأجيال الآتية، لتحفظه وتصونه، وتحميه من الاندثار والتشوه، فهو يحفّز حامليه على الارتقاء به مع الحفاظ على أصالته.
وشددت أنه على عاتقنا تقع مسؤولية جسيمة نتشارك جميعاً في حمل أعبائها من فنانين وموسيقيين وأكاديميين وباحثين ونقاد، وأن أولى خطوات الصون التنويط، وتعديل مناهج المعاهد الموسيقية التأهيلية والعليا، حيث تولي حيزاً أكبر لتدريس القدود، وأساليب تلحينها، وأنماط غنائها، كما يستدعي ذلك إقامة المزيد من ورشات العمل والحفلات والمهرجانات، ونشر البحوث والكتب والمقالات حول هذا الفن العريق ما يعزز أصالته، وينقله إلى خريطة الحداثة، كما أن تسجيل هذا التراث في سفر العالمية يُخرج مسألة حمايته وصونه من النطاق الوطني الضيق ليجعل منها مسألة إنسانية.
وختمت وزيرة الثقافة كلامها بالقول: إنه على الرغم من الحصار الظالم الذي يحارب السوريين في لقمة عيشهم، ويصادر مقدراتهم، ويسعى بكل الوسائل إلى إضعاف إرادتهم، وثني قواهم، إلا أن مواطني هذا البلد جميعهم بشيبهم وشبابهم ظلوا مصممين على صون تراثه الغني العريق والارتقاء به، وأن بوادر الانفراج بدأت، فها هو العالم يعترف مجدداً بأننا أهل حضارة، وأن جذورنا أعمق من أن تقتلع، وثقافتنا أصيلة ومكوناتها بديعة تستحق أن تحمى وتصان، وأردفت: لقد قطعنا شوطاً مهماً، ولا يزال أمامنا أشواط كثيرة لا تقل أهمية، فإلى مزيد من العمل لإنجاز المشروع الوطني الطموح في حماية وصون التراث المادي واللامادي.
جهود كبيرة
ومن جانبه بيّن المدير التنفيذي للأمانة السورية للتنمية شادي الإلشي أن هذا الإنجاز تطلّب جهوداً كبيرة، وعملاً مشتركاً بين المجتمع ومؤسساته بشكل علمي وممنهج من بحث وتوثيق وحوارات مع الباحثين وحاملي التراث والممارسين لإعداد الملفات والدراسات والخطط اللازمة بهدف حماية الهوية الثقافية السورية، كما يتطلب بعد تقييمه تسجيله في اليونيسكو لنستطيع إيصاله إلى العالم بالصورة الأجمل، مؤكداً أن الحرب على سورية هي حرب فكرية على هويتنا الثقافية الغنية والعريقة والمتجذرة في التاريخ، وبسبب التغير الجغرافي والديموغرافي للسكان فقد خُلق جيل كامل لا يعرف التراث المادي واللامادي، وهذا ما دفع الأمانة السورية للتنمية بتراكم خبرتها التي امتدت لأكثر من 20 سنة إلى أن تضع نصب عينيها حماية الهوية الثقافية السورية، والالتزام بهذا الإجراء بغية إعادة إحياء المقاصد والمعالم التاريخية من جانب بما معناه إحياء الجانب العمراني، وتأمين واستثمار الفرص الممكنة لتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية مستدامة، ومن جانب آخر صون التراث اللامادي من خلال الاهتمام بعاداتنا وتقاليدنا وممارساتنا وأغانينا وأمثالنا الشعبية كتراث حي.
وعرج إلى أن للقدود الحلبية أهميتين الأولى أنها تراث لامادي حي يعبر عن الفن الأصيل، وبصمة سورية حلبية بالشرق، ومرآة تعكس مجتمعاً سورياً راقياً وعريقاً لا يتخلى عن مبادئه وحقوقه وتراثه، والثانية أن القدود انطلقت من حلب تلك المدينة التي بقيت حية على مدى العصور وحافظت على الحياة فيها، كما حافظت على الحضارة والتراث المادي واللامادي، وعلى اعتبار أن القدود الحلبية أحد العناصر العديدة للتراث اللامادي فإن صون هذا التراث وحمايته ليس ترفاً أو رفاهية بل هو واجب على الجيل الحالي وحق للأجيال القادمة، وأمر أساسي وأولوية لأن حفاظنا على ثقافتنا وفهمنا لها يعني فهمنا لحاضرنا ومستقبلنا وعدم حفاظنا عليها يشكل خطراً دائماً على هويتنا الوطنية وتراثنا وانتمائنا الحضاري للأرض.