يسجل تاريخ الحربين العالميتين الأولى (1914-1918) والثانية (1939-1945) أن الولايات المتحدة لم تشارك إلى جانب بريطانيا وحلفائها ضد ألمانيا وحلفائها في كل منهما، إلا بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات، فقد شاركت في الأولى في نيسان 1917 وفي أوروبا في الثانية في 8-11- 1942 أي بعد أن استنزفت الأطراف المتحاربة لمعظم قدراتها العسكرية وسارعت بعد انتهائها إلى تقسيم العالم على مبدأ «فرق تسد»، مستخدمة قدراتها العسكرية المتعاظمة لخدمة مصالحها وتوسيع إنتاجها وسيطرتها على أسواق أوروبا وآسيا.
ويثبت تاريخ تأسيس الكيان الإسرائيلي ووظيفته ودوره في قلب العالم العربي، صلته العضوية بالقوى الاستعمارية بريطانيا ثم الولايات المتحدة، لاستخدامه قاعدة أساسية بنظرهما لتطبيق هذه السياسة الأميركية نفسها وبشكل مصغر على مستوى المنطقة، فقبل عدوان 1967 وظفت بريطانيا إسرائيل بالمشاركة في العدوان الثلاثي (بريطانيا – فرنسا- إسرائيل) على مصر عبد الناصر، ثم وظفتها عام 1962 في اليمن ضد الثورة اليمنية وحليفها المصري، وكشفت صحيفة «هآريتس» في 25-8-2011 تفاصيل الدور الإسرائيلي وإرسال الأسلحة للقوات اليمنية التي حاربت الثورة.
ثم نقلت الولايات المتحدة إسرائيل بعد دعمها الشامل لها في عدوان 1967 إلى مرحلة العمل الموجه لتفتيت المنطقة كلها عن طريق حروب بين بعضها بعضاً وكذلك عن طريق حروب داخلية لكي تشكل إسرائيل قوة إقليمية مصغرة عن الولايات المتحدة في منطقة مصالحها الإستراتيجية.
ولذلك سارعت بدفعها إلى احتلال لبنان عام 1982 بعد أن أخرجت واشنطن مصر من ساحة الصراع العربي- الصهيوني باتفاقية كامب ديفيد 1979، واندفع الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب المباشرة بجميع قواته وغطس في بحر من المقاومة من الجيش السوري ومن قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية الوطنية والإسلامية حتى انسحابه عام 2000، ثم عاد بعد ست سنوات لحرب شبه شاملة على المقاومة اللبنانية في تموز 2006 فهزم مرة أخرى، وكانت هاتان الحربان هما آخر الحروب المباشرة لجيش الاحتلال على جبهة الشمال، فخرجت له في الجنوب جبهة فصائل المقاومة منذ عام 2008 ولم يستطع حتى الآن شن حروب مباشرة، ولذلك لم تكن تهديداته بحرب مباشرة على إيران إلا شعارات ينتظر في غضونها توريط دول الخليج بحرب يريقون فيها دماءهم ضد إيران، لكي يحصد هو النتائج، وهو يعمل الآن بالتنسيق مع واشنطن على تعويض هذه الهزائم ومضاعفاتها المرئية في تزايد أزماته الداخلية المتنوعة بطرق أخرى هي الاستعانة بدول فرضت واشنطن عليها تطبيع علاقاتها مع إسرائيل لكي تنوب إسرائيل عن واشنطن في إشعال الأزمات بين دول المنطقة، فمنذ بداية هذه الموجة من التطبيع الذي قامت به السودان والمغرب والبحرين والإمارات، بدأنا نشهد تصعيداً في النزاع داخل السودان لزيادة تفتيته، وزيادة في التحريض المغربي ضد الجزائر، بل وبداية التسليح العلني الإسرائيلي للمغرب لشن الحرب على الجزائر، وتشديد الطريق المسدود في حل أزمة البحرين، وزيادة المحاولات الإسرائيلية لحشد قوى دول الخليج ضد إيران.
ومثلما كانت واشنطن تفتت وتقسم الشعوب والدول إلى قسمين متحاربين في كوريا وفيتنام ودول افريقية وآسيوية وأوروبية، كان آخرها تفتيت يوغوسلافيا والبلقان وسعيها لتفتيت سورية وليبيا والعراق واليمن، فمن الواضح أن هذا الكيان الإسرائيلي لن يتوقف للحظة واحدة عن العمل على استكمال هذا التفتيت بإشعال الحروب بين دول المنطقة حتى لو كانت صديقة للولايات المتحدة، أولم يحاول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في عام 2011 تغيير النظام في مصر يوم طالب حسني مبارك بترك السلطة وهو أهم حلفائه؟! أولم يتآمر على اليمن ضد علي عبد اللـه صالح لتقسيم اليمن، وهو الحليف القديم لواشنطن ضد اليمن الجنوبي؟ ثم أولم يخلق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من بعده نزاعاً بين حلفائه في دول الخليج حين قسمهم إلى دول تقف مع قطر وأخرى تقف مع السعودية، وترك قطر تشن حملاتها على مصر وتتحالف مع تركيا ضدها وكل هذه الدول تعد صديقة أو حليفة لواشنطن، ثم منح إسرائيل دوراً متزايداً في المنطقة بعد إجبار بعض الدول في نهاية عهده على التطبيع، وهو يعرف أن هذه السياسة ستولد مشاكل وأزمات لكل هذه الدول مع شعوبها ومع أشقائها المجاورين؟!
فإسرائيل نفسها تدرك أن استمرار وجودها مرهون دائماً بسياسة لا تسمح فيها أن يبقى مظهر من مظاهر القوة مهما كان شكله ونوعه عند أي دولة في المنطقة، لأنها تدرك أنه سيشكل خطراً على مشروعها الذي تقر بأنه يناقض كل قيم وجوهر شعوب المنطقة من ناحية قومية ووطنية ودينية وهي لن يكون بمقدورها محو ذاكرة تاريخية ودينية وسرديات تحملها شعوب المنطقة كلها ضد اغتصاب فلسطين ومحو هويتها وهوية شعبها وقدسها، وهذا ما جعل الكثيرين من المفكرين الصهيونيين يعترفون أن إسرائيل لن تبقى أكثر من عقد أو عقدين في أحسن الاحتمالات، بل ستتفتت هي نفسها بعد إدراك أنه لا جدوى من هذا المشروع بين أمة ترفض بكل جذورها الثقافية والوطنية والسردية والديني، وجودها على حساب شعب شقيق، ولذلك لن تنجح خططها على المدى القريب ولا البعيد بتقسيم هذه الأمة وهي تلعب الآن بموجب تقدير بعض مراكز الأبحاث الإسرائيلية بالوقت المستقطع بعد 73 عاماً لعبت خلالها ولم تحقق ثقة اللاعبين المستوطنين أنفسهم باستمرار اللعبة.