أدلى المبعوث الخاص للأمم المتحدة لحل الأزمة السورية غير بيدرسون في أعقاب زيارته الأخيرة إلى دمشق يوم الأحد 12 من شهر كانون الأول الجاري، والتي التقى من خلالها وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد، بتصريحات، بدا التفاؤل هو سمتها الأبرز، وفيها عبر عن «إمكانية طرح مقاربات جديدة تتيح إحراز تقدم في العملية السياسية»، ولربما كانت التصريحات التي أعقبت هذا التصريح الأخير كاشفة لمنابع التفاؤل الذي أراد بيدرسون له أن يكون العنوان العريض لزيارته التي كانت، بلا شك، الأهم من بين الزيارات التي أجراها منذ استلامه لمنصبه خلفا لثلاثة مبعوثين أعيتهم التعقيدات التي كانت عصية على «الفكفكة» فيما كان من الواضح أن الأخير عازم على استمرار المحاولة انطلاقاً من رؤية ثابتة لديه تقول إن «الرياح لن تظل ماضية هكذا في اتجاهها الذي تسير عليه»، ناهيك عن أن الطموح الشخصي للرجل كان غالبا ما يشحذ مولدات الصبر عنده فيمدها بالمزيد ما يطيل بقدراتها على العمل.
من بين ما قاله المبعوث في أعقاب تصريحه آنف الذكر: «سافرت كثيراً بين بعض الدول العربية، وعقدت نقاشات عميقة مع الأميركيين والأوروبيين، وأعتقد أن هناك إمكانية الآن لبدء استكشاف مقاربة «خطوة خطوة»، أي أن توضع على الطاولة خطوات محددة بدقة، بأمل أن يبدأ بناء بعض الثقة»، وفي رد على سؤال كان قد وجه إليه بعد لقائه بالوزير المقداد، وهو، أي السؤال، يرمي إلى استكشاف ما يدور في خلد الرجل حول «اللجنة الدستورية» وفرص نجاحها قياساً للتحديات التي تواجهها أجاب: «سوف نرى، وسوف أواصل الآن مناقشاتي مع الرئيس المشارك الذي رشحته الحكومة السورية للجنة الدستورية، وسوف أجتمع معه الآن، ثم أتابع بطبيعة الحال أيضاً مع الائتلاف الوطني السوري، وآمل أن يكون لدينا بعض الأنباء الإيجابية في المستقبل غير البعيد».
ما يستشف من مجمل التصريحات والردود التي أدلى بها بيدرسون في أعقاب محادثاته في دمشق هو أن الأخير متفائل بدرجة لا يمكن التخمين معها بأن مصادرها تتأتى فقط من الصبغة الديبلوماسية التي تحتم المهمة التي يقوم بها عليه امتلاك الكثير من تلاوينها، على الرغم من أنه افتقد في بعض المفاصل لـ«علبة المزج» التي تلزم لإعطاء اللون الذي تتطلبه هذي الأخيرة حتى بدا في أحايين عدة منفعلاً بالتطورات أكثر مما هو «جاباً» لها، الأمر الذي يمثل مقتلاً للنجاح لنوع كهذا من المهمات، والتي لربما تمثل مهمته من بينها الأعقد مما أوكل إلى نظائره في أزمات أخرى ساخنة مثل اليمن وليبيا.
يبدو التفاؤل مشروعاً بدرجة تؤكدها الكثير من المعطيات وكذا السلوكيات التي يبديها العديد من الأطراف الفاعلة على الأرض السورية، وفي الذروة منها تلك التي تتبناها واشنطن التي زارها مؤخراً، وهو بالتأكيد كان قد سمع فيها الكثير مما يتعدى المعلن الذي تبرزه التصريحات أو الإيماءات، أو حتى الخطوات المرحلية التي تحتاج بالتأكيد إلى تتمات لكي تصبح فعالة بما يكفي، أو هي تصبح من النوع المؤسس لأرضية يمكن البناء عليها، ولربما كان من الراجح أن بيدرسون كان قد ابتنى في تصوراته مجسماً عن تلك التتمات في غضون نقاشاته مع المسؤولين الأميركيين الذين التقاهم في زيارته تلك، وبهذا التصور يمكن الجزم بأن مصدر التفاؤل الأهم عند بيدرسون كان ناجماً في جله من الينبوع الأميركي، إذ لطالما كان من الثابت أن «عجلات» عربة التسوية التي أصابها الصدأ بدرجة مانعة لدورانها، تحتاج إلى «زيت» أميركي الصنع، والذي سيكون قادراً وحده على حل ذلك الصدأ، فالزيوت الأوروبية والإقليمية كلها لن تكون سوى عامل مساعد، أو التحاقي، بالدور الذي يمكن للزيت الأميركي أن يؤديه.
في استكشاف الآفاق التي يمكن لهذا التفاؤل أن يفضي إليها يمكن القول: إن مقاربة «الخطوة خطوة» التي ذكرها بيدرسون في تصريحاته الأخيرة، والتي استعارها بالتأكيد من أدبيات الدبلوماسية الأميركية التي جاءت على ذكرها منذ وصول إدارة الرئيس جو بايدن إلى السلطة مطلع العام الحالي إبان تناولها للأزمة السورية، وهي تعني أن السير قدماً على طريق دفع عجلة التسوية السورية سيكون تدريجياً، بمعنى أن واشنطن ستعمد على «دفش» العربة لخطوات ثم سيعقب الفعل فترة راحة يجري من خلالها استبيان ماذا فعل الآخرون، الذين يمثل الروس والسوريون أهمهم هنا، في مقابل ذلك «الجهد» الأميركي، وإذا ما كانت نتيجة الاستبيان إيجابية فسيجري تكرار العملية على النحو الذي جاءت عليه في المرة الأولى، وهكذا دواليك في مسار من المقدر له أن يتسارع، أو يتباطأ، تبعاً لمدى التناغم بين حركات الفرق المعنية بدفع العربة.
غادر المبعوث الأممي دمشق من دون أن يحدد موعداً جديداً لانعقاد الجولة القادمة من اجتماعات «اللجنة الدستورية»، وإن كان قد عبر عن آماله بأن يكون حدوث الفعل عما قريب، وعلى الرغم من أنه بدا واثقاً من استمرار التوافق الشفوي الذي أرسته قمتا الرئيسين الأميركي والروسي التي انعقدت آخرها مؤخراً، والقاضي بتحييد الملف السوري عن الأزمات الملتهبة حتى التي يمثل منها عاملاً شديد التأثير فيها مثل الملف النووي الإيراني الذي يشهد في هذه الآونة مرحلة بالغة الحساسية، إلا أن ثمة رهاناً خفياً لديه بأن يؤدي خروج «الدخان الأبيض» من فيينا، المرجح برغم كل هذا التصعيد الحاصل، إلى انفراجات تقود نحو اجتزاء مقاربة «الخطوة خطوة»، فتصبح هذه الأخيرة بالجملة لا بالتقطير.