يفكر الإنسان أحياناً بحكمة، لكنه يتصرف في كثير من الأحيان بحماقة عندما تتملكه لحظات ضعف نتاج مطاردة تلك الأفكار التي يسعى وراءها، يتغلب عليها، وأحياناً تغلبه، كل الأناسي تحت جلودهم المتلونة متشابهة، باستثناء الأفكار المختلفة والنفوس بأنواعها، وكل الناس قادرة على العمل، إلا أنها متفاوتة في استثمار الفكر وتحفيز الهمم وتحقيق النتائج ومنها كائنون على درجات.
الكل يفكر ويعمل، يأكل ويشرب وينام ويمارس الجنس، وكلٌّ لديه هواية ما، الكل يخاف من شيء ما، والقليل يحب وندرة الندرة لا تخاف، بل تخشى، لأنها كائنة في قمة الحب، من يفسد الذائقة الجمالية؟ من يعلّب الإنسان؟ من يشوه الفلسفة الجميلة؟ إنه إنسان يخترق روح الحياة، روح الله الموزعة فينا، القاسم المشترك بين الناس يكمن في الخوف والحب والغضب والكراهية، وجميعها ليس لها علاقة بالمكان أو الزمان، إنما متعلقة بالواقع النفسي الذي يخصّهم.
كل أشياء هذا الإنسان يقع تحت جلده وداخل جمجمته، إنه هوَ «هُو»، لم يتغيَّر عبر ملايين السنين التي وجد واستمر خلالها، تطوير جوهر الإنسان أكثر من ضرورة، لأن وحشيته مازالت موجودة، نراها في لجة أحداثه اليومية مع قلقه واضطرابه، عند جبروته ولحظة ضعفه، كيف بنا نلتقط أحداث بعضنا، ونستشرف رؤى زمنية تحصل؟ لنذهب معها إلى تحليلها أو تفكيكها، هنا أتحدث عن منتهى الواقعية التي تطالبنا بأن نعترف لأنفسنا، فهل نقدر على فعل ذلك؟ لأن من لا يعرف نفسه لا يعرف حدوده، ومن لا يعرف حدوده يكن في حالة انفلات، وفي الوقت ذاته سيكون فاقداً للاحتمال والصبر والزهد والنجاح، والفشل ضمن مسيرته.
متى يكفُّ الإنسان عن السؤال والبحث والحركة وخلاصه من غربته الداخلية؟ مؤكدٌ لحظة وصوله إلى الموت الذي يكتمل به، وبهذا يكون الناس غير مختلفين، وحاجتهم لبعضهم حاجة الذكر للأنثى، التي تدعوه لمحاباتها ودغدغتها أو للارتباط بها كما هي الحياة التي تطالبه بالإنتاج منها والحفاظ عليها، كي يمنحاه ما يريده منها، وأنه غير قادر على رؤيتها بوضوح، إلا عندما تكون رؤيته حقيقية، لأنه من النادر أن يفهم الذكر الأنثى، ويكون متوافقاً مع حقوقها، هذا طبع سواد الناس.
هل يعود الإنسان إلى المعرفة التي تأسست من القيم والمبادئ الأخلاقية التي علبها الإنسان وأخفاها بين ثناياه؟ لا يريد البحث عنها، أو استعادتها، وهدفه أن يبقى ناقصاً معتقداً أن اكتماله يكون بالموت، كما قاربت في هذه المسيرة، فالموتى وحدهم الذين اكتملوا، وقالوا ما عندهم قبل رحيلهم، لذلك يمكن الحكم عليهم، وتوجهي نحو هذا العنوان يدفعني كي لا أكون جدلياً، بل أنحو نحو الواقعية التي تضعني في حوار مع وجودي كإنسان قبل أن أحاوركم، وما أخوض غماره يكمن بين السهل الممتنع والممتع، ما يجعل هدفي الرئيس إزاحة التعمية الهائلة التي تفصل بين الإنسان، وهي التي تحجب حقائق الأنوار الإنسانية بغاية خلق الفواصل وإحداث الدرجات وتعميق الهوات بين الإنسان والإنسان، حيث لم يتبقَّ للإنسانية سوى فرصة أخيرة.
لم يعد المنطق الإنساني يتقبل هذا الاستسهال المتمثل في استباحة الإنسان للإنسان، من خلال الزج بالأيديولوجيات السياسية والمعتقدات الدينية التي تتقدم على نقيض من مقاصدها، مقدمةً الإنسان إلى محارق الحروب والاستغلال السياسي والاقتصادي بلبوسات مختلفة الأشكال والألوان، تطوله وحده، إما على لونه، وإما على معبده، وما هي إلا أفعال فاضحة لحملات الخداع والتزوير والتضليل التي يقوم بها فكر إنسان مختلف عن أخيه الإنسان، فما نقوم به يحمِّلنا مسؤوليات جساماً، لأن الجميع لاعبون من أتباع ومتبوعين منخرطين في هذه الأفكار الرديئة، التي تحمل غاية واحدة، تكمن في إبعاد فكرة الإنسان المتشابه وتحويله إلى متنافر، وبذلك يقل الخشوع للكلي، وتنتهي الخشية، ويكثر الخوف والهرج، وينتشر موت الفجأة، وينتهي السلام بين الناس، إفلاس للفكر الإنساني وتشويه لصورته، وللأسف ممن؟ من أخيه الإنسان، لقد نسي الناس بعضهم، وتناسوا جمال هذه الدنيا التي لولاهم لما كانت، ونسوا العلاقة مع قلوبهم وعقولهم.
ها أنذا أدعوكم للانحياز إلى الإنسانية التي تعين الإنسان حقيقةً لا وهماً، ولنقف ضد البشرية الحاملة للشرور والشراهة والتسلط والعنصرية، ووقوفنا إلى جانبها يعني العودة إلى الحياة، إلى البناء الإنساني الذي يحمل هماً واحداً، يقف مباشرة بعدها، ألا وهو إعمار الأرض.