بمنطق المعطيات التي ما انفكت تتراكم على مدار الأسابيع الماضية فإن مسألة قيام روسيا بعملية عسكرية واسعة تطول مناطق الشرق الأوكراني بات أمرا شبه حتمي، وبمعنى أدق فإن ذلك الفعل بات مسألة وقت تدرس من خلاله موسكو ردود الفعل على الفرصة الأخيرة لتجنب اندلاع النار في منطقة باتت شديدة الحساسية لاعتبارات تتعلق بمحاولات الغرب ضرب حصار خانق حول دور روسي ما انفك يحلم، منذ أن وصل الرئيس فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة في الكرملين أواخر العام 1999، في استعادة «المجد» السوفييتي الضائع.
تقول المعطيات إن موسكو تتهم السلطات الأوكرانية بانتهاك اتفاقات «مينسك» التي وضعت ما يشبه خريطة طريق لتحقيق السلام في إقليم دونباس شرق أوكرانيا الذي يمر بحالة من اللاستقرار منذ أن جرى ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا العام 2014، الفعل الذي دعا سلطات كييف إلى انتهاج سياسات من الجائز تسميتها بـ«حافة الهاوية» عبر سعيها للتقارب مع الغرب وصولاً إلى وضع احتمالية انضمامها لحلف شمال الأطلسي على الطاولة كخيار أخير تراه ضامناً لأمنها، وهو ما يشجعه الغرب بقوة انطلاقاً من كونه يشكل اختراقاً استراتيجياً للأمن الروسي الذي بات في هذه الآونة هاجساً أول حاكماً للسياسات الروسية بعيد إعلان إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن إستراتيجيتها التي تتضمن وضع روسيا كثاني تهديد تواجهه «الديمقراطيات الغربية»، وبعيد أن أعيت موسكو بلدان الغرب في طلبها الذي تدعوها فيه إلى تراصفها معها في مواجهة النهوض الصيني الذي صنفته الإستراتيجية الأميركية سابقة الذكر، كخطر أول يتهدد النموذج الغربي عموما، وانفراد الولايات المتحدة بالهيمنة العالمية على وجه الخصوص.
في مطلع كانون الأول الجاري دعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الأميركي في لقاء معه جرى عبر تقنية الفيديو، إلى تقديم ضمانات قانونية لاستبعاد كل توسع جديد لحلف شمال الأطلسي شرقا، في الوقت الذي كانت موسكو قد اعتبرت فيه أن الغرب انتهك كل الوعود التي قطعها لروسيا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي عبر تشريع أبواب الحلف لانضمام دول أوروبا الشرقية إليه، بل لانضمام الجمهوريات السوفييتية السابقة التي تعتبرها موسكو فضاء أمنيا من شأن العبث فيه أن يتهدد البيت، وكذا الكيان، الروسي في الصميم، ثم عاد بوتين بعد أسبوعين ليدعو في لقاء جمعه مع نظيره الفنلندي، وللنظير هنا رمزية مهمة لها دلالاتها، إلى إجراء «مفاوضات فورية» مع حلف شمال الأطلسي حول الضمانات التي ينبغي على الأخير تقديمها لروسيا بشأن أمنها على خلفية التوترات الحاصلة مع أوكرانيا.
يدرك الروس أن تلك الدعوات لن تلقى آذانا مصغية في ظل توجه غربي يبدو ماضيا نحو ضرب حصار حول روسيا لدفعها للانكفاء، أو لفرض تغييرات كبرى على خياراتها السياسية الكبرى مما يمكن تحقيقه الآن عبر توازنات تميل لمصلحة ذلك التوجه، ويدركون أيضاً أن المفاوضات التي يدعون إليها، فيما لو انطلقت، فإنها لن تكون سوى بداية لسلسلة لا تنتهي من الجولات، وهي لن تفضي إلى نتائج تذكر مما يجول في الخاطر الروسي المرهق الآن بفعل اختلال موازين القوى في وقت باتت فيه كل «المكاسب» التي تحققت في المرحلة «البوتينية» على المحك، لكن ما تسعى إليه موسكو عبر سيل الرسائل التي ما انفكت ترسلها في شتى عواصم الغرب هو استكشاف ملامح الخريطة الغربية التي يمكن أن يرسمها احتدام الصراع مع أوكرانيا الذي يبدو حتميا.
هذا بالتأكيد يفسر ربط موسكو للتوقيع على معاهدة جديدة تخص الصواريخ المتوسطة بقبول الغرب تقديم ضمانات تختص بعدم التفكير بتمدد الناتو نحو الحدود الروسية، والراجح هو أن ذلك الربط لن يكون خادماً لمصالح الطرفين إلا بشكل مرحلي، بمعنى أنه لن يكون حلاً دائماً من النوع الذي يكون كفيلاً بتسكين هواجس الأمن الروسية لوقت طويل، وهذا بالتأكيد ما يدفع بموسكو إلى كل هذا التشنج الذي تجد نفسها فيه مضطرة إلى استخدام القوة بكل ما يحمله الفعل من احتمالات وقوعها في فخ عقوبات ستكون هي الأشد مما فرض عليها بعيد ضم شبه جزيرة القرم، وإذا ما كان الغرب موقنا بأن الفعل، أي فرض العقوبات، لن يكون رادعا أمام حراك عسكري هدفه التخفيف من هواجس الأمن، فإنه سيكون موجعاً على المدى الطويل بدرجة كافية لإبطاء عجلة التمدد الروسية التي ترفض التقولب وفق رسومات الغرب، وهي تصر على السير في قوالب تفرضها المصلحة الروسية بالدرجة الأولى، ثم السير على نحو يعيد لموسكو موقعها الذي افتقدته قبل نحو ثلاثة عقود.
من بعيد يمكن لحظ طموح روسي في إمكان قيام محور روسي صيني هندي هدفه التعويض عن توازن القوى المختل لمصلحة الغرب، الأمر الذي تؤكده زيارة بوتين مؤخراً لنيودلهي وما نتج عنها من توافقات قد تكون مؤسسة لهكذا نوع من الطموح، وتؤكده أيضاً التوجهات الروسية نحو شق قنوات جديدة مع بكين من شأنها أن تزيد من متانة العلاقة التي تقف اليوم على درجة جيدة منها، لكن المعوق الأكبر أمام أن يصبح ذلك الطموح حقيقة على الأرض هو كيفية الجمع بين قوتين، ونقصد طبعا الصين والهند، متنافرتين إلى درجة التحارب بفعل التناقض القائم جراء التباعد في الرؤى والمصالح، وما تفرضهما من علاقات تباعد وتقارب تكون حاكمة للخيارات التي يتخذها كل طرف على حدة، لكن ذلك لا يشكل مدعاة لليأس تجاه تحقيق ذلك الطموح، خصوصاً أن الفعل يمكن وحده أن يدفع بالغرب نحو إعادة حساباته تجاه روسيا التي تجد نفسها اليوم مضطرة للظهور بكل هذا التشنج، وللقول إنها لن تتساهل في موضوع أمنها أياً تكن التداعيات التي يمكن أن تترتب على ذلك الفعل، حتى ولو كانت النتيجة حرباً سريعة في دونباس لن يطول الوقت بها لكي تحسم تماما كما حدث في آب 2008 مع جورجيا التي لعبت في تلك الحرب دور رأس حربة أميركي.