اعتقد البعض ممن يتابع الشأن السوري، أن لجنة مناقشة الدستور التي وصلت للجولة السابعة من دون تحقيق أي تقدم يذكر، هي مربط الخيل، وأن كتابة النص الدستوري هو الحل الذي يخرج سورية مما هي فيه، وكأن الولايات المتحدة لا هم لها في العالم سوى سعادة الشعوب وتقدمها، وخروجها من آلامها ومصائبها، وأن العقوبات الأحادية القسرية الظالمة، هدفها الضغط لإنتاج دستور متطور للبلاد، وأي الدستور من خلال القهر والتعذيب، والتهجير، والتجويع؟ ثم يحدثونك عن حقوق السوريين، ومستقبلهم، وآمالهم، وأحلامهم، وبأنهم الأحرص علينا من أنفسنا.
هذا هو الاعتقاد لدى البعض، لكن المسؤولين الأميركيين الذين يتعاطون مع الملف السوري، أو تعاطوا معه، يكشفون بوضوح شديد الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة، فالمبعوث الأميركي السابق بشأن سورية جيمس جيفري في آخر حديث له قال إنه يقترح ما يلي: تخفيف العقوبات، الاعتراف الدبلوماسي، الإعمار والاستثمار، والتعامل مع النظام، حسب تعبيره، مقابل: قيام الرئيس بشار الأسد وحلفائه بخطوات ضمن الأجندة، وتشمل: اللاجئين، ووجود إيران، وأمن إسرائيل، وأمن تركيا.
هل لاحظتم أن كلمة دستور لم ترد هنا أبداً، وإنما يتم الحديث عن مقايضات، خطوة مقابل خطوة، وهي مقاربة ليست بعيدة عما سمي «اللاورقة الأردنية» التي سربت بشكل مقصود لوسائل الإعلام، ولكن جيفري نفسه يشكك بمن أتى بعده من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، معتقداً أن هناك أشخاصاً في الإدارة «يسعون لسياسة أخرى لتسليم سورية للرئيس الأسد أو روسيا» حسب تعبيره، ليؤكد أن الإدارة شجعت زعماء في المنطقة على التطبيع.
من هنا يبدو واضحاً أن عودة الحرارة للاتصالات العربية مع دمشق حيناً، وبرودتها حيناً آخر ترتبط بالإدارة الأميركية التي تحاول مقايضة كل خطوة بخطوة مقابلة من طرف سورية، ليجيروا ذلك في المفاوضات مع إيران، في النووي ودورها الإقليمي، ومع روسيا في أوكرانيا، إضافة لذلك موضوع أمن إسرائيل ذو العلاقة بدعم حركات المقاومة المستمر من قبل سورية، وحليفتها إيران كجزء من الوقوف في وجه مشاريع الهيمنة الأميركية خاصة، والغربية عامة.
إذاً، إنها مسألة أي نظام إقليمي جديد، وأي نظام عالمي جديد، والثاني هو الأساس لترتيب الأول الذي سيظهر موازين القوى الجديدة، وتوزعها، والخطوط الحمراء لكل الأطراف، ولا يخفى هنا أبداً ضمن هذه الترتيبات قضايا اكتشافات الطاقة وخصوصاً الغاز، وتوزيع الحصص والحقول، والأهم تأمين استقرار طويل الأجل يتيح للشركات والدول الاستثمار المجزي لتحقيق المنافع والأرباح.
جيفري نفسه كشف أنه زار موسكو عام 2019 مع وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو، وقدما للرئيس الروسي فلاديمير بوتين صفقة بشأن سورية، لكن بوتين رفضها معتقداً حسب جيفري أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب راحلة، وأن الولايات المتحدة ستنسحب من سورية لتترك الأمور لموسكو هناك!
إذا دققنا في ما تفعله إدارة بايدن سنجد ما يلي:
– تخفيف لبعض جوانب العقوبات ذات العلاقة بما يسمونه جانباً إنسانياً.
– القبول بالإنعاش المبكر، وصدور تعليمات بهذا الشأن على الرغم من ضغط بعض الحلفاء، فرنسا مثلاً، لعدم شمول ذلك سوى للمساعدات الإنسانية.
– توسع الانتشار الروسي في شمال شرق سورية، ونزول مقاتلات روسية في مطار القامشلي.
– دفع قوى الأمر الواقع المتمثلة بـ«قسد» للتفاوض مع الحكومة السورية، وهذه لم تفهم بعد أن الاعتماد على الأميركي سوف ينتهي يوماً ما، ولا تزال تعمل كالأغنام على جرس الراعي الأميركي الذي لم يقر في موازنة العام 2022، أي دعم لما كان يسمى «الاستقرار المستدام»، ما أزعج «قسد» ولكنه لم يوصلها إلى النتيجة التي ستعرفها عاجلاً أم أجلاً.
– قيام إدارة بايدن بعقد اجتماعات في بروكسل لتنسيق المواقف بين حلفائها بعد أن لاحظت أن هؤلاء الحلفاء بدؤوا يجتهدون في مساراتهم، وذلك بهدف الضبط والتنسيق، ومع ذلك فقد ظهرت تباينات، وخلافات بين العديد من الأطراف، وبالكاد تم الوصول لبيان ختامي يؤكد وحدة سورية واستقلالها، وسيادتها، وعلى الحل السياسي فيها بموجب القرار2254، وهي اللازمة لكل بيان سياسي لابد منها.
الآن قد يطرح البعض سؤالاً: أليس الدستور مهماً للغاية وهو البوابة التي يريدون الولوج منها من أجل تحقيق ما فشلوا به عبر الإرهاب، ومجموعاته الإجرامية، وعبر الحصار والتجويع والتهجير؟!
بالطبع الجواب نعم، ولهذا فإن الأطراف التي تسمي نفسها معارضة سورية هي التي تعكس أجواء المقايضات الكبرى: ماذا تريد أميركا، وتركيا، وبريطانيا، وفرنسا، والأهم إسرائيل، وفي كل جولة في جنيف يتراكض مندوبو هذه الأطراف، ويلقّنون الطرف المسمى «معارضة» بما عليهم فعله، ويكتبون لهم النصوص المطلوب الدفع بها للنقاش من قبيل صلاحيات رئيس الجمهورية، الجيش، الأمن، القضاء… الخ، وحتى الهوية العربية السورية، ويرفضون إدانة الإرهاب وداعميه، مثل تركيا، وغيره الكثير.
ما أريد قوله: إن لجنة مناقشة الدستور هي البوابة الدبلوماسية المفتوحة للتفاوض بين الدولة السورية وحلفائها من جهة، وبين الولايات المتحدة وأدواتها من جهة أخرى، وهي مفاوضات تجري في الميدان، وعبر الحصار، والعقوبات، والمساومات التي لا تتوقف، ومن يعتقد أن التنازل أو المساومة قد يريحنا اقتصادياً، ويفتح أمامنا بوابات الحل فهو واهم، ومن يعتقد أن التنازل أمام العدو الإسرائيلي سوف يوصله إلى بر الأمان فهو واهم أيضاً، وها هي الدول المطبعة أمامكم، ونتائج تطبيعها الاقتصادية تتحدث عن نفسها، السودان مثلاً، لتريكم أن ما روج له البعض لن يوصله إلى النتيجة المرجوة.
السؤال الآخر الذي يطرح: ما العمل المطلوب منا على الأقل مرحلياً ريثما نصل إلى النتائج المرجوة ضمن إطار تسوية مقبولة، ومرضية لنا بناءً على تضحياتنا، وصبرنا الطويل؟!
قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال مهمة، منطلقها ضرورة ترتيب البيت الداخلي، وتعزيز الوحدة الوطنية وزيادة جرعات الحوار بين السوريين في المسائل الإستراتيجية، وفي أداء الحكومة، ومكافحة الفساد التي هي حديث الشارع، إضافة إلى شرح السياسات الحكومية إعلامياً وجماهيرياً وأهدافها، فالحوار مع الناس أساسي في السياسة والاقتصاد وبناء المستقبل، وتحويل هذه العناوين إلى مشاريع عملية ومستمرة هو أمر ضروري للمرحلة الحالية والقادمة ريثما تتضح الصورة الكبرى التي نحن جزء أساسي فاعل فيها، ولسنا منفعل كما يعتقد البعض.
أعود للقول: لا علاقة للدستور بما يجري من مفاوضات، إنما هو بوابة دبلوماسية لابد من استمرارها، وعندما تنضج الظروف والتسويات سنجد أن الإخراج سيتم عبر لجنة مناقشة الدستور، التي قد تهمنا كسوريين، ولكنها بالنسبة للآخرين ليست إلا أداة ضغط ومساومة.