يمكن الجزم بأن الحمولات التي أرخى بها عام 2021 على السوريين كانت هي الأثقل عليهم من بين ما أرخت بها سنوات الحرب التي دارت رحاها عليهم قبيل ما يزيد على السنوات العشر، أثقل حتى من نظائرها التي كانت النار فيها في أوجها بين عامي 2013 و2015، ولربما يصح القول إن المبعوث الأممي غير بيدرسون كان قد نجح في كشف عمقها، وفي إيقاظها فينا، من خلال إحاطته التي قدمها لمجلس الأمن 20 كانون الأول الجاري بجملة هي الأشد مما يجب أن نحس به على الرغم من شدة الآلام التي تكاثفت من كل حدب وصوب، وفي تلك الإحاطة سيقول بيدرسون «إن العديد من أطفال سورية لا يعرفون وطنهم، ولا آفاق عودتهم الآمنة»، لكن شدة الوطأة هنا، مما يبدو طافياً على السطح بوضوح فاقع، لا يلغي أن ثمة ما يتبلور في القاع، مما لا تراه الأعين بوضوح لكن يمكن لحظه بالترائي البطيء، ومن المؤكد اليوم أن الصورة المتشكلة لدى الشارع باتت أشبه بمرآة تبعثرت شظاياها في العديد من الاتجاهات، وباتت عملية استعادتها إلى وضعها السابق، لكي تعود فتعكس الصورة، عملية شاقة وطويلة المدى، ولذا فإن فعلاً من نوع إعادة القطع المتناثرة، يتطلب جهداً كبيراً لتحقيقه، ناهيك عن أنه يتطلب أناة وصبراً لربما كان من الصعب الآن، والحال هكذا، مطالبة السوريين بتحليهم بتلك الصفات، لكي يستطيعوا لملمة مراياهم المتكسرة.
في بداية العام كان السوريون على موعد مع وصول إدارة أميركية جديدة إلى البيت الأبيض، وفي غضون عام تقريباً على ذلك الوصول تأكد أن تلك الإدارة تمتلك مقاربة جديدة لأزمتهم، وهي تختلف جذرياً عن المقاربتين اللتين امتلكتهما إدارة باراك أوباما ثم دونالد ترامب، والثابت هو أن مقاربة الإدارة الجديدة تحمل في طياتها الكثير من «الإيجابيات» التي يمكن البناء عليها، من دون أن يعني ذلك بالضرورة وسم تلك المقاربة بسمة «مكتملة الإيجاب»، إذ لطالما أعلن القيمون عليها، عبر إطلاق آلية «الخطوة خطوة»، أن الغوص في مسار كهذا يقتضي أن تقابله «غوصات» أخرى من الأطراف الفاعلة في الأزمة ممن يقفون على الضفة المقابلة، ولذا فإن من الثابت أن مسلسل الغوص قد يطول نسبياً قبيل أن يتلاقى الغواصون عند نقطة لا خلاف فيها على اقتسام «المحارة»، وفي ضوء تبلور تلك المقاربة سنشهد ميلاً أميركياً عبرت واشنطن من خلاله عن عدم ممانعتها في حدوث اختراقات وازنة في نسيج «قيصر» التي شهدت حتى الآن ثلاث طبعات منها، وصولاً إلى الوقوف «على الحياد» تجاه ميل عربي بدا حثيثاً لاستعادة التقارب مع دمشق الذي لعبت فيه الإمارات العربية دوراً هو الأهم في مسار يظهر لدى الأخيرة غواية جمع المتناقضات مما يظهره النشاط السياسي لديها تجاه طهران ودمشق، وأنقرة وتل أبيب، ولربما كان الرهان هنا ينصب على لعب دور إقليمي عابر للحدود، وهو يتخطى القدرات والإمكانات اللتين يستعاض عنهما هنا بظلال قوى دولية كبرى.
وفي الغضون شهدت الحالة المعيشية تدهوراً غير مسبوق وجد السوريون أنفسهم معها أمام واقع يتهدد تجذرهم على أرضهم، والأخطر كان في الرؤى التي تبنتها بعض النخب وهي تشير إلى نجاح السوريين في كل بقاع الأرض التي انتشروا فيها، فلماذا لا ينجحون في بلادهم إذاً؟ والمشكلة في نوع كهذا من التدهورات هي أنها لا تمضي، بعد تحسن الظروف المعيشية المفترضة، فتطوى صفحتها كأن شيئاً لم يكن، بل تخلف وراءها «ندبات» تطفو على سطح الحياة الاجتماعية والثقافية المحددتين للمزاج العام السائد، وكذا لطبيعة الرؤى التي يتبناها الأفراد الذين يعمدون، وحالهم يزداد تردياً، إلى بناء تصورات ومواقف يمكن لها أن تدفع بهم إلى خيارات هي في المجمل لا تصب في مصلحة إعادة بناء وطن تكالبت عليه قوى الشرق والغرب ومعهم الشمال والجنوب، والثابت هو أن هذه الحالة قد تشهد طبعات جديدة، أشد خطورة من سابقاتها، إذا ما سارت سياقات الحالة المعيشية في مسارها الذي ظهرت عليه في غضون العام الذي نستعد لطي أيامه الأخيرة.
في محاولة رسم صورة مكثفة لمسار الأزمة السورية خلال عام 2021، يمكن القول إن هذه الأخيرة خبت نارها العسكرية والسياسية مقابل تأججها على الضفة الاقتصادية شديدة التأثير في الحالة المعيشية ومجموعة القيم ومنظومات الثقافة والأفكار التي باتت ترزح تحت وطأة حمولات تهدد بنسف ركائزها، ولعل من الثابت القول إن لا حلول لهذه الأخيرة، أي الأزمة الاقتصادية، إلا بحلول سياسية نهائية تضع نهاية لهذه الحرب التي وجد السوريون أنفسهم في أتونها بفعل عوامل هي في معظمها خارجة عن إرادتهم، من دون أن يعني ذلك انعدام الثغرات في الداخل التي ساعدت الخارج في الولوج إلى أعماق خطرة، كانت الحرب في جزئها الأكبر ضريبة الجغرافيا وضريبة الدور، وما استولده العاملان السابقان من حمولات في القطاع الجيوساسي الذي برزت سورية من خلاله نقطة ارتكاز إقليمية لا غنى عنها، والمؤكد هنا أن خلخلة تلك «النقطة» كانت كبرى أهداف الحرب.
وعلى الرغم من سلبية المؤشرات التي ما انفكت تتراكم في المشهد السوري بشكل لافت، لكن يمكن ترجيح القول إن عام 2022 سيحمل بين طياته بوادر انفراج في الأزمة، التي إذا ما قدر لها أن تخرج عن السيطرة، فلسوف تؤدي إلى إشاعة عدم الاستقرار على امتداد المنطقة بكل ما تحتويه من مصالح كبرى للعديد ممن كانوا يدفعون نحو «الفوضى» السورية، وإذا ما كان ذلك يمثل سبباً أولاً لترجيح تلك الفرضية، فإن سبباً آخر لا يقل أهمية عن الأول يمكن له أن يقود أيضاً لتلك الخلاصة، فاللاعبون الذين أبدوا حالة من التعب من «أجيج» النار الملتهب على امتداد السنوات الثماني الأولى، باتوا اليوم يشهدون حالة شبيهة بالسابقة تجاه «الستاتيكو» القائم منذ نحو عشرين شهراً، وهذا لن يقود إلى وضع الأزمة السورية في الثلاجة، أو يدفع بها إلى الأدراج السفلى، على الرغم من انشغال اللاعبين ببؤر تشهد حماوة الآن، وأخرى تبدي استعدادها لممارسة الفعل عينه، والجزم هنا عائد لاعتبارات لها علاقة بنتائج الحرب، وكذا بالتخوم السورية التي تشهد تذمراً من طول حرب لم تحقق أي بند من أهدافها المعلنة.