مجاورات الأدب.. تصنيف أدبي وبحث عن اعتراف … يجمع المصطلح بين جميع أشكال الكتابة وتلك النصوص التي تقع على هامش المؤسسة الأدبية
| إسماعيل مروة
«مجاورات الأدب» عنوان لكتاب نقدي يقدمه أستاذ جامعي، وناقد فرنسي هو دانيال كوينياس، ونقله إلى العربية أستاذ النقد في جامعة دمشق د. وائل بركات وصدر ضمن سلسلة (المشروع الوطني للترجمة) عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، وهو كتاب أكاديمي ونقدي يؤسس لفهم جديد للأدب وتصنيفه ودوره، وخضوعه للمؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأزعم أن هذا الكتاب يكتسب أهمية خاصة لعدة أسباب، ويعني القارئ العربي، ويلزم الناقد العربي، وقد يسهم في جلاء كثير من القضايا التي ما تزال عالقة وتحتاج إلى فصل في أدبنا العربي.
المجاورات وثقافتنا
يتحدث المترجم الناقد بداية عن ترجمته لهذا المصطلح، واختياره له دون سواه من المصطلحات الممكنة: الأدب الشعبي، الأدب الرديف، الأدب الرديء.. ويخلص بالمناقشة إلى أن هذه العنوانات الممكنة لم تكن معبرة أو قادرة على حمل ما في الكتاب من آراء نقدية استخلصها المؤلف وتقوم على آراء أساطين النقد وأصحاب النظريات مثل جينيت ونظرية العنونة وما إلى ذلك.
واختار (مجاورات الأدب) وهو مصطلح معبر وكافٍ لأنه يتحدث عن أدب يراه النقاد الغربيون دون الأدب الرسمي، ولا يحمل مكانته، لكنه يحمل مواصفات الأدب والذيوع والشهرة، لذلك كان التصنيف الأقرب هو المجاورة، وفي الكتاب أمثلة لن أجتزئها تؤكد هذا التلازم، ففي خصائص النشر اشترك الأدب ومجاوراته، بل إن الأدب الرسمي استقى تسويقه في مراحل من تجربة مجاورات الأدب، وبعض الكتاب قد ينتمون إلى الصنفين في الوقت نفسه، وربما انتقل أحدهم من ضفة إلى أخرى دون أن يتخلى عن الميدان الذي عرف به.
المجاورات والقارئ العربي
من المعروف أن الرواية بشكلها الفني الحالي هي فن غربي أخذه الكتاب العرب عن الكتاب الغربيين، وهذا ما جعل هجرات الأصناف الأدبية تنتقل إلينا، ونمارس عملية التجريب، وفي هذا الكتاب نقدم الاحترام للكاتب والمترجم، إذ أظهر الصورة واضحة، فالكمّ الكبير من الأدب المجاور الذي نقرؤه في العربي قادم من الغرب، وهو هناك لا يحمل سمة الأدب الرسمي، بينما عندنا نجد من يدافع عنه، ويضعه في مصاف الأدب، ويعقد موازنات بينه وبين الأدب الذي تعارف عليه النقاد والمثقفون! لذلك أراد المترجم أن يضع الحقائق الصادمة أمامنا من أول فقرة في التقديم، وكان هذا التقديم ضرورياً وواضحاً «ربما لم يخطر في بال القارئ العربي أن روايات أرسين لوبين وألكساندر دوماس وأجاثا كريستي، وأن حكايات المغامرات والألغاز والروايات البوليسية والعاطفية والقصص المصورة والمسلسلة وما شابهها.. لا تدخل في نطاق الأدب الرسمي المعترف به.. ولابد من توسيع الدائرة وضمّ أصناف أخرى مثل: روايات الخيال العلمي، وأعمال الفانتازيا، والرعب ورعاة البقر (الويستيرن) ومسرح الرعب والمسرح البوليسي، والميلودراما ، والمغامرات..».
لو نظرنا في هذه الأصناف سنجد أن القارئ العربي قرأها وصنفها ضمن الأدب، وربما ضمن الأدب الرفيع أيضاً، لذلك جاء الكتاب وكتبوا على نهجها، وأرادوا ذلك ضمن دائرة الأدب الرسمي، وربما كانت الموجة التي طغت على الكتابة السردية العربية منذ سنوات، والتي تعنى بالمغامرات والجنس والعاطفة وما شابه ذلك متأثرة بهذا النوع من الكتابة، وجاء هذا الكتاب ليمنح الناقد فرصة للتصنيف، فهو ليس أدباً رسمياً، إنما هو مجاور للأدب، لاستخدامه أدواته وتقنياته، واختلافه معه في المرامي.. ويمكن لهذا الإنجاز المشكور تأليفاً وترجمة أن ينهي الصراع ويحلّ الإشكالية بين الأدب العربي الرسمي والأدب الشعبي، فهما ليسا متصارعين وفق النظرية، لكنهما متجاوران، الأول مطوّب ومعترف به، والثاني يجاوره ولا يحمل خصائصه.
المجاورات والتصنيف
إن ما قام به دانيال كوينياس من تصنيف علمي يشير إلى الجهود السابقة التي درست هذا الجانب، سواء من مؤلفات أو أبحاث أو ندوات، وإن كان يأخذ على بعض الندوات أنها لم تتابع جهودها التي بدأت علمية ومنطقية «منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا، ازدادت المجموعات ذات الموضوعات المختلفة التي تنضوي تحت صفة الشعبي مع استمرار، بالمقابل لموجة الرواية البوليسية ورواية الجاسوسية، ورواية الخيال العلمي والرواية الفانتازية، ورواية الرعب، ورواية رعاة البقر، ورواية المغامرات العاطفية أو الإباحية..».
ويشير إلى أهم ندوة «في العام 1967 عقدت في المركز الدولي بسيريزي لاسال بالنور ماندي في فرنسا ندوة موضوعها «حوارات حول مجاورات الأدب» يدهش القارئ الغربي والعربي هذا التصنيف بدقته، فهو يتناول أدباً تنوع من حيث الموضوعات، متأثراً بالتطورات السياسية والصناعية والاقتصادية والفكرية، وإذا ما استخرجنا هذه الأنواع التي سادت كما يقول المؤلف في النصف الثاني من القرن العشرين (البوليسية، الجاسوسية، الخيال العلمي، الفانتازيا، الرعب، رعاة البقر، العاطفية، الإباحية) أدركنا المعنى المراد لدى النقاد من تصنيف الأدب الرسمي وأدب المجاور.. وهذه الأصناف من الروايات والأدب المنتشر لم يكن يخطر ببال أنه ليس من الأدب الرسمي المعترف به من الطبقة المثقفة التي تخوّل بتحديد نوعية الأدب، وإن كانت لفظة الأدب الرسمي توصيفاً إلا أنها تحمل صفة مقبولة، وتحت التصنيف نعثر على الحكم على هذه المجاورات التي عقدت لأجلها ندوة كبرى تتناول الحوارات حوله.
وهذا الأدب المجاور حظي باهتمام النقاد الأكاديميين الكبار «شهد هذا العقد أيضاً نشر بعض الأعمال التي أكدت اهتمام النقد المعاصر بأنواع من الأدب الهامشي من مثل: عمل اللساني جان، بول كولان الرواية البوليسية الفرنسية القديمة، وكتاب آن- ماري تييس رواية اليوميات القائم عموماً على البحث في نوعيات قرّاء الروايات الشعبية وأصنافهم، وهنا إشارة واضحة ومهمة في دراسات النقاد لمجاورات الأدب، فهي تتناول: تاريخها، من يتلقاها، أنواع المتلقين، وهذه الإشارة تمثل فصلاً واضحاً بين الأدب الرسمي والأدب المجاور حسب التلقي.
التصنيف والتوصيف: قد يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن مجاورات الأدب النظرة الدونية لهذا الصنف من الأدب، لذلك يقف الكاتب عند هذه النقطة ليحدد منطلقه للأدب المجاور، وينصفه من التصنيف الذي قد يقع تحته «يخلط بين مجاورات الأدب وبين الأدب الرديء.. وقد بنت هذا الموقف المعياري كتب التاريخ الأدبي في ستينيات القرن العشرين، وهكذا سنرى اقتران الأدب الرديء بـ: موضوعات معينة قصص المغامرات الخيالية، شخصيات غير ضعيفة الدلالة نفسياً، ترتبط بمعطيات الواقع مثلما تحيل على مفهومات أخلاقية..
شكل محدد يتصف بأنه مكتوب بأسلوب رديء، وربما غير مكتوب وبجميع الأحوال لا أهمية له.. مقابل هذه الصفات التي تصدر غالباً عن أروقة السلطة المؤسساتية لجمهورية الأدب تحضر نظيراتها التي تصدر عن مناهضي النظام الأدبي التقليدي القائم».
والتوصيف الذي تحدث عنه النقاد وأثبته المؤلف يؤكد وجود فوارق بين الأدب التقليدي العام وبين مجاورات الأدب، ذلك أن الأدب التقليدي قائم على المتخيل والواقع، ومعروف القائل، وغير محدد مسبقاً، بينما الأمر يختلف في مجاورات الأدب المحددة مسبقاً في سيرها وغايتها، وكأنها معادلة معروفة مسبقاً والنص لحصرها فقط كالجريمة التي تبقى جريمة، والحالة العاطفية والإباحية التي لا ترتكز على الواقع وسيرورته، والانطلاق في آفاق التخييل.. ونذكر في العربية سلاسل منها تتشابه في كل شيء، وهي إعادة صياغة لسلاسل أجنبية، حتى إن الروايات العاطفية والإباحية العربية التي نالت الاستحسان، هي إعادة صياغة لقصص معروفة مثل (رجوع الشيخ إلى صباه) وربما كان الانحياز من مثقفي الأدب العام في مواجهة مجاورات الأدب ينبع من خصوصية المجاورات «نجد أن مجاورات الأدب قابلة لإعادة الضبط والإعداد من جديد إلى ما لا نهاية، وهي تحيل بصورة أكثر دقة إلى شكل حلزوني. وبهذا الشكل يمكن لسرد في مجاورات الأدب وبسهولة أن تعاد كتابته من قبل مؤلف جدير، وهذا حاصل آلياً وفعلياً.
يضرب المؤلف أمثلة لذلك حين يشطب اسم المؤلف، أو يوضع غيره، وهذا لا يمكن أن يحدث في الأدب الرسمي العام فما هو لديكنز له، وما هو لتولستوي له، أما هذا النوع من الأدب فبالإمكان أن يصاغ ويعاد كما لو أنه شفاهي كما يذكر المؤلف.
كتاب نقدي سهل، بذل مترجمه جهداً كبيراً لتقديمه إلى القارئ العربي، ونلاحظ ذلك من حواشيه وتدخلاته المشار إليها في المتن. يحسن بنا أن نقرأ تفاصيله لنصل إلى حدود للأدب والأدب المجاور، أو المجاور للأدب.