الأولى

داعش.. إرهاب الدولة المُنظم

بيروت – محمد عبيد :

بات يصح توصيف الجرائم الإقليمية والدولية التي يرتكبها «داعش» بأنها إرهاب دولة مُنظم. فالتنظيم الذي أُريدَ له أن يظهر للعالم بصورة هوليوودية تتجاوز الخيال البشري في الترهيب وابتداع آليات القتل والإجرام، تجاوز هذه الصورة وحوّلها إلى واقع محسوس وملموس يوزع الموت في غير بلد بغض النظر عن تلاقي مصالحه أو تضاربها مع حكومة هذا البلد.
فما وفرته أجهزة الاستخبارات الغربية من غطاء سياسي ومن ممرات جوية وبرية آمنة لوصول أتباع «داعش» ومناصريه إلى سورية والعراق واليمن إضافة إلى تغاضيها عن حركة التواصل والتجنيد الإلكتروني الذي سهلته له مع ما قدمته بعض الدول والممالك الإقليمية كتركيا والسعودية وقطر من دعم لوجستي وحاجات مالية وتموينية ولاحقاً من أسواق تجارية لتصدير الغنائم المسطو عليها من النفط والغاز والمصانع والغلال، كل ذلك سمح لهذا التنظيم باستكمال تكوين مقومات الدولة الفعلية وليس الاسمية فقط، دولة تتحرك حدودها الجغرافية وفق تطور قدراتها البشرية والعسكرية ولها أميرها وولاتها ونظامها السياسي-الديني ولها أيضاً متعاطفون يقودون مؤسسات وتجمعات دينية متطرفة يروجون لها وكأنهم سفراؤها ويراهنون على نجاحها في إلحاق الهزيمة بأنظمة وأحزاب سياسية في الدول المستهدفة بهدف تغيير صورة المنطقة العربية والإسلامية وضرب تنوعها وتعدد اتجاهاتها الفكرية والعقائدية والسياسية. وهو ما جعل هذا التنظيم-الدولة يتقدم ويختلف عن كل ما سبقه من حالات تاريخية مشابهة ومن بينها «تنظيم القاعدة» وإن كان للقاعدة حقوق محفوظة في التأسيس على صعيد العقيدة والنهج والبيئة الحاضنة.
ولذا، كان من الطبيعي أن يتكون لدى هذه «الدولة» وقيادتها إحساس بالانتفاخ القدراتي وخصوصاً أنها فيما عدا التصدي الفعلي لها من سورية (رئيساً وحكومة وشعباً وجيشاً) وحزب اللـه مع الحليفين الأساسيين إيران وروسيا، لم تخف يوماً ما يسمى التحالف الدولي الذي راهن ويراهن على الاستثمار فيها وعليها لتحقيق مصالح دول هذا التحالف في المنطقة ولم ترهبها غاراته الوهمية ولا تصريحات المنضوين فيه. هذا الانتفاخ دفع بـ«دولة داعش» إلى التجرؤ على القيام بهذه النقلة النوعية والإستراتيجية من خلال تخطيطه وتدبيره وتنفيذه لهذه العملية العسكرية الإجرامية في العاصمة الفرنسية تشبهاً بعملية «القاعدة» في نيويورك في أيلول من العام 2001.
لكن هل سيقود هذا التطور الدراماتيكي الذي فرضه «داعش» من بوابة فرنسا على العالم أجمع وخصوصاً على الدول التي تقود ما يسمى التحالف الدولي ضد الإرهاب إلى تغيير قواعد اللعبة في مواجهة هذا التنظيم-الدولة، وهل ستنتفي الحاجة إلى حمايته ومسايرته واستمرار المراهنة على الاستفادة من حركته الإقليمية بالترافق مع بعض الإجراءات لدرء خطره المباشر عن هذه الدول؟ وهل ستقف تداعيات هذه العملية الإجرامية عند حدود الاستيعاب السياسي بما لا يغير في خريطة الطريق المضمرة لدى فرنسا وحلفائها في مقاربتها للأزمة السورية خاصة ولموضوعة تمدد «داعش» عامة؟ وأخيراً هل سيتمكن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند وحزبه من امتصاص غضب ونقمة الشعب الفرنسي تجاه سياساته الملتبسة وغير الواقعية حول قضايا المنطقة وأزماتها؟
تساؤلات وغيرها ستطفو على السطح السياسي الدولي والإقليمي وخصوصاً إذا لم نشهد في المدى المنظور اندفاعة سياسية غربية وبالأخص فرنسية تعيد على أساسها الدول المعنية تقييم أفكارها وأدائها تجاه الوضع في سورية، وهو ما لم يتبدَّ في اجتماع فيينا الأخير الذي عاودت فيه هذه الدول تكرار الأسطوانة المشروخة ذاتها حول رحيل الرئيس الأسد، وأيضاً اندفاعة عسكرية بالتنسيق الفعلي الكامل وليس المحدود مع الطرف الروسي وتباعاً السوري والإيراني للإجهاز على هذا الوحش الجديد وخاصة أن ظروف الاجتياح الأميركي الأحادي للمنطقة والعالم التي توافرت بعد عملية نيويورك قد زالت مع تبدل موازين القوى الدولية والإقليمية وانكفاء واشنطن القسري والطوعي عن التوغل في التورط مجدداً.
يوم قادت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها الحرب على تنظيم «القاعدة» انصاع بقية العالم وحيّد بعضه الآخر نفسه، كانت وظيفة هذا التنظيم قد انتهت غير أن قيادته لم تقبل بالتقاعد الإجباري فقامت بغزوتها الشهيرة، ولكن «دولة داعش» مازالت في أوج إنتاجيتها لتحقيق مصالح مشغليها وإن خرقت القواعد المفترضة أو المتفق عليها ما مكنها من توسيع حدود هذه الدولة أمنياً وعسكرياً من دون أن تأبه لردود الفعل التي يبدو أنها لم تنضج بعد وربما لن تنضج إلا في حال تجهيز بدائل عنها تؤدي الوظيفة ذاتها من دون أثمان مباشرة أو ارتدادات مؤجلة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن