الدكتور جابر عصفور صاحب المشروع النهضوي والتنويري وداعاً … أمضى حياته باحثاً عن التنوير وداعياً له ولم يعثر عليه .. تعلم على أيدي الكبار فكان ناقداً كبيراً
| إسماعيل مروة
ويرحل الأستاذ الدكتور جابر عصفور العالم العَلَم، العامل في الحقل الثقافي حتى أيامه الأخيرة، الرجل الذي بدأ رحلة الكتابة عن التنوير في مرحلة مبكرة جداً، ففي التسعينيات كتب الدكتور جابر في التنوير والفكر ما لم يكتب سواه، وهو الأكاديمي العميق الذي حمل اسماً عميقاً حفره بجهده وتعبه وأصالته، لم يقتصر دوره على الأكاديمية والتدريس، وإنما كان مثقفاً مؤثراً في الحياة العامة والثقافية، لأنه آمن بالفكر والتنوير، وضرورة التواصل مع شرائح المثقفين والمجتمع كافة.
وأعطى الكثير من جهده للعمل العام، وللدوريات الثقافية، فرفع من سويتها، وأعطاها عمقاً مختلفاً.
الدكتور عصفور والعمل الثقافي
لم يقتصر دور الدكتور عصفور على العمل الأكاديمي، وهو الناقد البارع والخبير الذي لا يجارى في النقد والصورة الشعرية، والذي تتلمذ على طه حسين وعبد العزيز الأهواني، وربما ليس من قبيل المصادفة أن يحصل الدكتور عصفور على درجة الدكتوراه في العام نفسه الذي رحل فيه عميد الأدب العربي طه حسين، وقد كان د. جابر من طلابه المخلصين له ولآرائه وأفكاره ودوره التنويري، وكان د. عصفور مثقفاً جماهيرياً ولصيقاً بالناس، وقد التزم بدراسات ومقالات دورية عن الثقافة والتنوير في عدد من المجلات المتخصصة، وتولى الإشراف على هيئات علمية مثل المجلس القومي للثقافة، وأدى دوراً مهماً في دعم الثقافة الحقيقية، وأذكر أنني زرت الدكتور جابر في مرات، وشهدت في إحداها وقوف الدكتور عصفور إلى جانب الثقافة، فقد حضر يومها إبراهيم أصلان وعلي أبو شادي لأن الأزمة وصلت مرحلة متقدمة بسبب رواية الروائي السوري حيدر حيدر (وليمة لأعشاب البحر) وقد تم استدعاؤهم من الرئاسة بسبب نشر الرواية، لكن الدكتور عصفور كان منحازاً للثقافة ونشر الرواية، ووقف إلى جانب أولئك الذين أجازوا نشرها.. وكانت أحاديث د. عصفور ومناقشاته تدور حول المزيد من الانتصار للثقافة.
الاعتداد بالذات وما تملك
كان الدكتور عصفور من أكثر المثقفين التصاقاً بالثقافة المعاصرة، والحداثة والصراعات الفكرية والأدبية، وهو في الوقت نفسه أكاديمي في النقد العربي والتراثي، وهو صاحب الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، فهو طالب طه حسين ورؤاه التراثية، وبحثه عن الثقافة العربية المعاصرة، وهو من مدرسة الأهواني العاشق للتراث، وهو صاحب علاقة وطيدة بمندور وغيره من النقاد المعاصرين، وعندما نستعرض ما كتبه الدكتور عصفور في حياته الفنية نجد ذلك العمق في القديم، والخبرة بالتراث، وفي الوقت نفسه قام بتسخير تلك المعرفة العميقة للنقد العربي الحديث، وللأدب والثقافة المعاصرين.. وكان رأيه النقدي قوياً مشفوعاً بالمعرفة والعمق، وهو يفاخر بذلك، وحين صار بينه وبين الدكتور عبد العزيز حمودة صاحب (المرايا المقعرة- المرايا المحدبة) وقد صدرا في التسعينيات من القرن العشرين، صار بينهما حوار ونقد، حاول فيه كل واحد أن ينتصر لرأيه، كانت ردود الدكتور عصفور صاحب (المرايا المتجاورة) علمية وحاسمة، وإن غلبتها العاطفة، إلا أنه استطاع بعلمه أن يشكل تياراً مقابلاً، وأذكر من تلك الحوارات التي حضرت بعضها قول الدكتور عصفور: «أنا لست حاملاً لشهادة وحسب، أنا الأول في حياتي الدراسية عند الدكتور طه حسين والأهواني، أنا الأول في رحلتي العلمية» ومع علمية الحوار، إلا أن هذا الاعتداد كان واضحاً في ردوده، وفي دراساته التي كان يراها قولاً فصلاً! وعندما نقرأ نتاج الكاتب والناقد الكبير نستخلص دون أي صعوبة أو جهد أنه كان من أصحاب الرؤى الواضحة والعلم الثابت.
عمله في الثقافة
كان الدكتور عصفور أكاديمياً وأستاذاً لا يجارى في الصورة الفنية والقصيدة العريقة، وكان وفياً لأساتذته، فما من يوم تنكر لأستاذيه طه حسين والأهواني، بل إنه يهديهما ثمرة تدريسهما له، وأول ما قرأت في نعيه قول أحد الأساتذة: كان من أخصّ طلاب طه حسين، وفي نهاية حديثه قال (غفر الله له) وكأن الإخلاص للعلم والمعلم من الذنوب التي تستوجب المغفرة! وما يطلب له المغفرة به كان من أهم ما يفاخر به ويذكره في مجالسه وكتبه، بل إن القارئ المتمعن، سيدرك ودون أدنى شك أو تعب أن الأبعاد الثقافية والتنويرية في كتبه ودراساته لم تكن لولا الأثر الفكري الذي حمله من طه حسين خلال مراحل دراسته الشخصية أو على كتبه وآثاره.
وقد كان الدكتور عصفور على ملاك وزارة الثقافة المصرية، وإذا ما زرته في تلك الفترة فسيقودك إليه طريق فيه شوقي وعبد الوهاب، لتصل إلى مثقف حقيقي يحمل اسماً كبيراً، لكنه لم يغلق بابه، ويدنو منك، ويحاورك، ويرافقك إلى الخارج.. لكن ما يلفت الانتباه أن رجلاً بوزنه يقود مؤسسة، ويحيط نفسه بعدد من كبار الأدباء والنقاد، فإذا بحثت للوصول إلى كاتب أو مبدع فستتعب، لكن يكفي أن تكون في مكتبه لترى هؤلاء الذين يملكون الإرث الثقافي، ولكل منهم دوره واحترامه، بل إن الدكتور عصفور كان يباهي بهم، ويشيد بهم، ويرد الأفضال لهم، وإن حدثت مشكلة فهو المدافع عنهم، الناقد لتقزيم الثقافة، وبقي ناقداً للمؤسسة الثقافية التي ينتمي إليها حتى وقع له ما كان يرغب به منذ زمن، حيث عيّن وزيراً للثقافة في آخر وزارة في عهد مبارك، تلك الوزارة التي لم تعش، ولكن الدكتور جابر عصفور حين رأى ما رأى لم يستمر غير يوم فيها ليقدم استقالته، ويعود إلى الأكاديمية، لتسقط الحكومة بعد أيام، وما كان يطمح أن يقوم به جاء في أسوأ الأوقات، وقد ظلم عصفور بسبب تولي الوزارة، وناله ظلم لا يستحقه، وهو الذي كان فوق التصنيف!
قصته مع التنوير
إن المتابع الدؤوب يقرأ أن المشكلات الحقيقية لم تبدأ بالربيع العربي، وإنما بدأت في التسعينيات من القرن العشرين، ومع طرح فكرة العولمة عربياً، وقد كتب فيها الكثيرون من المتدينين والأكاديميين والعلمانيين، وكل واحد من هؤلاء كتب فيها على هواه،و بما يناسب توجهاته، وانخرط فيها كتاب التيار الديني.. ولكنهم جميعاً لم يشاؤوا أن يحددوا المشكلة الحقيقية النقدية التي ترمي إليها العولمة، والدكتور عصفور من القلة الذين رأوا المشكلة بطريقة مختلفة، وخصص لها دراسات عدة، وعمل على تعميمها في الدوريات والكتب، وقد فصّل فيها بأنها تتعلق بأزمة التنوير والعقل، وكانت آراؤه- قرأت بعضها وسمعت من بعضها- تتمثل في أن علاقة ما بين المثقف العربي والسلطة تحتاج إلى ترميم وتنوير، ومن ثم العلاقة بين المثقف والمتلقي، ثم بين العربي والآخر، وعندما تنجز هذه السلسلة يمكن للتنوير أن يساعد في العيش مع أي حركة قادمة، وإن كانت نوازعها غير طيبة، إن كانت كذلك.. وإن بدأ هذه الدراسات بشكل غير مباشر في (المرايا المتجاورة.. دراسة في نقد طه حسين 1983 إلا أنه استمر في (الإحيائية والإحيائيون، التنوير يواجه الظلام، محنة التنوير، دفاعاً عن التنوير، هوامش على دفتر التنوير، أنوار العقل، آفاق العصر) وهذه عناوين كتب ودراسات جميعها كانت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وجميعها تؤكد محنة النور والتنوير ولا تتحدث عنها عرضاً أو بشكل عفوي، فهل استمع المثقف وأصحاب القرار إلى هذه النداءات التي شكل الدكتور جابر طرفاً منها؟!
أزعم أنه ما من كاتب أكاديمي أو مثقف أخلص هذا العدد من الدراسات والكتب للبحث في التنوير وآفاقه، ما يدفع إلى الاعتقاد والجزم بأن الناقد الراحل كان صاحب مشروع تنويري ثقافي نهضوي مجتمعي متكامل.
إنصافاً للعالم والتاريخ
التقيت الدكتور جابر عصفور مرات في دمشق واللاذقية والقاهرة، وفي كل مرة كان العالم الموسوعي الأنيق صاحب التواضع مع الاعتداد، ومن أطرف ما حصل معي أنني اتصلت به في زيارة للقاهرة بعد عام 2000، فرحب وأعطاني موعداً، وحين حضرت اعتذر بشدة لأن اجتماعاً كبيراً من أجل رواية (وليمة لأعشاب البحر) سيعقد بأمر من الرئاسة، فأسقط في يدي، وبحضور إبراهيم أصلان وعلي أبو شادي، فضغطت آلة التسجيل وسألت د. جابر: لماذا لا يراك عبد العزيز حمودة ناقداً مهماً، فأجلسني إلى جواره وأخذ يرد على اتهامات حمودة بعصبية، فخرجت بتسجيل ساعة كاملة، وصحبني بتواضعه إلى الباب، وقد ملأ لي حقيبة من أهم إصدارات المجلس، وطلب سائقه، وقال: إلى أين تريد أن يوصلك؟ فضحكت وقلت له: إلى جامعة 6 أكتوبر للقاء صديقي وأستاذي د. عبد العزيز حمودة.. ضحك كثيراً، وهو يحضنني ويقول: منك لله.. سلّم على الدكتور عبد العزيز حمودة فهو عالم جليل.
يرحل جابر عصفور أحد العلماء الكبار، وواحد من النقاد الأصيلين اليوم، الرجل الذي كان عربياً في ثقافته وأصالته، وحضارياً في فكرة وتعامله.. الرجل الذي كان أشبه ما يكون بكتاب الجاحظ: وعاء حشي علماً، وظرف ملء ظرفاً.