قبل ثمانية عشر عاماً قام خمسة شبان يقطنون في السكن الجامعي التابع لجامعة هارفارد بإطلاق منصة تواصل اجتماعي سموها (فيس بوك). لم يكن مارك زوكربيرغ، وزملاؤه إدواردو سافرين، وأندرو ماكولوم، وداستن موسكوفيتز، وكريس هيوز، يتوقعون ما جرى حتى في أكثر أحلامهم تفاؤلاً، إذ نمت قيمة منصتهم وفق متوالية هندسية لا تكف لحظة واحدة عن النمو. فقبل انتهاء العام الماضي بلغت قيمة أسهم شركة فيسبوك التي غيرت اسمها إلى (ميتا)، حوالي ترليون دولار، والترليون، يا سادة، هو ألف مليار، أي واحد وإلى يمينه اثنا عشر صفراً.
في العام الماضي بلغت منصة فيس بوك سن الرشد، وفي الغرب عندما تتزوج الفتاة تحمل اسم زوجها، وقد قرر أصحب فيس بوك أن يزفوا منصتهم لأحدث صرعة ابتدعوها في دنيا الثورة الرقمية أي Metaverse (ميتا فيرس). لذا غيروا اسم شركتهم إلى (ميتا). يتكون اسم الميتا فيرس من مقطعين: ميتا Meta ويعني ما وراء و Verseوهي الشطر الثاني من كلمة كون Universe ليصبح معناها التقريبي (ما وراء الكون) وقد تم نحت هذا المصطلح عام 1992من قبل الروائي نيل ستيفنسون في رواية الخيال العلمي «تحطم الثلج» وهي رواية يتفاعل فيها البشر مع شخصيات خيالية عن طريق نظارات أو خوذات ذكية تدخل من يرتديها إلى فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد مطابق للعالم الحقيقي.
خلال الأعوام القليلة الماضية توصل مهندسو الثورة التقنية لثلاثة أنواع من الواقع يتم الولوج إليها باستخدام الخوذات الذكية، هي الواقع الافتراضي، والواقع المعزز، والواقع المختلط. وميتافيرس هو مزيج من هذه الأنواع الثلاثة، فهو يجمع العناصر الرقمية مع حواس البشر، إذ لا يتيح للمستخدم رؤية العالم من حوله بطريقة جديدة فحسب، بل يتيح له فرصة الانغماس في ذلك العالم والتفاعل معه بالمعنى الدقيق للكلمة.
ويخشى المتوجسون من هذه التوجهات الجديدة أن تؤدي إلى غرق الفرد في فقاعة بيانات من شأنها «أن تأكل عقله» تماماً، لأن تلك الفقاعة تتغذى على اهتماماته الفردية وتتوافق مع معتقداته وحاجاته وغرائزه. إذ إنها قادرة على تحقيق كل أحلامه ونزعاته ورغباته بمجرد أن يبدأ التفاعل معها عبر شخصيته الرقمية.
لاشك أنه من المبكر الحكم على الميتافيرس، لكن أخطر ما في هذا التوجه، برأيي المتواضع، هو أنه سيتيح للفرد أن يكون ديكتاتوراً صغيراً. فهو وحده من يقوم بصنع العالم الخاص به، وله وحده القرار في مشاركة ذلك العالم مع من يرتاح إليهم فقط، وهذا يعني أن الفرد سيكون معزولاً عن كل الأفكار المختلفة والأشخاص المختلفين. أما إذا صدف أن تسرب شخص مختلف أو فكرة مختلفة إلى الفضاء الذاتي للفرد المستخدم، فسيكون بمقدوره حظر ما يزعجه على أهون سبيل والتمتع باستقلاليته داخل جدران دولته الافتراضية. وهكذا ينزوي كل فرد في فقاعته الرقمية وتتلاشى الحياة الاجتماعية ويضمحل مفهوم المواطنة. بعض الباحثين يرون أن تقنية الميتافيرس ستتيح للحكومات فرصة تاريخية لغسل أدمغة مواطنيها بمشاركة الضحايا أنفسهم. لكن بعض العالمين ببواطن الأمور يرون أن الإعلام يعطي الميتافيرس أكبر من حجمه، وعلى رأس هؤلاء صاحب شركة تسلا الشابّ الكندي – الأميركي إيلون ماسك الذي صنف مؤخراً كأغنى شخص في العالم، إذ وصف تِقْنية الميتافيرس بـ«المزحة».