بعد الإعلان الأولي عن نتائج انتخابات المجلس النيابي التي أجريت في الـ10 من تشرين الأول 2021، مر العراق في أوضاع متوترة وغير مستقرة استمرت أكثر من 75 يوماً، قوامها طعون وشكوك ومظاهرات واعتصامات وتهديدات باقتحام المنطقة الخضراء، حيث مقرات الحكومة العراقية والسفارات الأجنبية. وبصعوبة بالغة تخطت المحكمة الاتحادية العليا في العراق «الإرباك والحرج» الذي وضعتها فيه المفوضية العليا المستقلة للانتخابات والقوى السياسية المعترضة على النتائج، معلنة في الـ27 من كانون الأول 2021، تصديقها على النتائج الانتخابية المعلنة، وقبلها ببضع ساعات ردت المحكمة دعوى إلغاء النتائج الانتخابية المقامة من رئيس تحالف الفتح هادي العامري في الـ5 من كانون الأول الماضي، بعد قيامها بتأجيل البت فيها ثلاث مرات، مشيرة في قرارها إلى أن «طلب المدّعين بالنظر في الإجراءات الفنية للشركة الفاحصة يتعدّى اختصاصها»، داعية مجلس النواب المقبل إلى «تعديل قانون الانتخابات واعتماد نظام العدّ والفرز اليدويَّين حصراً»، لافتة إلى أن «صلاحيات المحكمة هو التصديق على نتائج الانتخابات فقط».
والغريب، أنه إذا لم يكن النظر بالطعون من اختصاص المحكمة، فلماذا قبلت الدعاوى وأجلت الحكم بها ثلاث مرات، حيث كان الأجدر بها أن ترد الدعاوى من الجلسة الأولى لعدم الاختصاص.
وبالمقابل، عبرت الجبهة الوطنية المدنية برئاسة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي في بيان لها في الـ28 من كانون الأول الماضي، عن استغرابها «لعدم الإشارة إلى الشكاوى التي تم تقديمها من قوى متعددة أخرى من المشاركين في الانتخابات» في قرارها الأخير!
القوى المشتكية، وفي بيانات رسمية، عبرت عن «أسفها» لصدور قرار المحكمة الاتحادية «رغم كثرة الأدلة القانونية والفنية المقدمة بحجة عدم الاختصاص»، معبرة عن احترامها للقرار إيماناً منها «بالدولة واحتراماً لإرادة القضاء العراقي بصرف النظر عن قناعتنا بهذا القرار»، موجهة أنصارها بإيقاف كل مظاهر الاحتجاجات والاعتصامات.
المحكمة الاتحادية العليا، أرادت بمماطلاتها السابقة في اتخاذ أي قرار، إتاحة المجال للقوى السياسية المتصارعة للتوصّل إلى توافقات أو تحالفات سياسية بشأن المرحلة المقبلة، تُسهل عملية تمرير قرار التصديق على النتائج من دون أن يُشعل ذلك فتيل أزمة أخرى أكبر، كما سبق أن أشرت إلى ذلك في مقالة سابقة.
صفحة إعلان النتائج والتصديق عليها طويت، لتتصاعد بالمقابل وتيرة التفاهمات والتوافقات السياسية في سبيل تشكيل الكتلة النيابية الأكبر، صاحبة القرار في التشكيلة الحكومية، للمضي برسم ملامح الحكومة المقبلة، حيث كل طرف يسعى لكسب أطراف أخرى إلى جانبه، باتجاه تشكيل «حكومة أغلبية وطنية» حسبما يتمسك به مقتدى الصدر، أو تشكيل «حكومة توافقية» حسبما يدعو إليه الإطار التنسيقي.
رئيس الجمهورية برهم صالح، دعا في مرسوم جمهوري مجلس النواب الجديد للانعقاد يوم الـ9 من كانون الثاني 2022، الذي سيكون برئاسة النائب الأكبر سناً وهو محمود المشهداني رئيس المجلس النيابي الأسبق، لاختيار رئيس جديد للمجلس (سنّي)، ونائبين له (شيعي)، وثانٍ (كردي)، ومن غير المستبعد أن يُنتخب المشهداني لرئاسة المجلس النيابي الجديد، في حين سينتخب المجلس النيابي في جلسته التالية، رئيساً للجمهورية (كردياً) يقوم بتكليف شخصية (شيعية) تشكيل الحكومة الجديدة، وفقاً لترشيح الكتلة النيابية الأكبر.
العقدة القادمة الأكبر التي ستواجه مسيرة المفاوضات والمشاورات، هي كيفية حسم الكتلة النيابية الأكبر داخل المجلس النيابي التي يجب إعلانها في الجلسة الأولى، فبينما يعلن الصدر أن كتلته هي الأكبر، ترى قوى الإطار التنسيقي أنها تمكنت من جمع عدد أعضاء أكبر من عدد الكتلة الصدرية، وأنها ستعلن ذلك في الجلسة الأولى.
التعقيد والصعوبة داخل البيت الشيعي، يقابلهما صعوبة مماثلة داخل البيت السنّي لاختيار رئيس المجلس النيابي، وأخرى داخل البيت الكردي لتسمية رئيس الجمهورية القادم.
جولة الصيد انطلقت، حيث ستشهد الأيام القليلة المقبلة، إعلانات الانضمام والتحالف مع هذا أو ذاك، ما يفضي إلى ضمور مسميات حزبية أو تحالفات لمصلحة ثنائي التنافس مقتدى الصدر ونوري المالكي.
إن صفقة اختيار الرئاسات الثلاث: النواب، الجمهورية، الوزراء، التي سيتم الاتفاق بشأنها بـ«سلة واحدة»، إضافة إلى المضي بتشكيل الحكومة، هي من أكثر الصفقات تعقيداً، التي قد تستغرق أشهراً عدة للاتفاق بشأنها، بسبب الخلافات المتجذرة بين القوى السياسية الرئيسة ومكوناتها، وحتى الآن لا شيء يشير إلى أن الذهاب إلى حكومة «أغلبية وطنية» ممكن.
وفي ظل الإصرار على «حكومة لا شرقية لا غربية»، وعدم تدخل ثلاثة مؤثرات قوية حتى الآن، واشنطن وطهران والمرجعية الدينية في النجف، فإن نقاشات القوى السياسية تتجه نحو «خلطة العطار» لتشكيل «توافق الأغلبية» بغية حلحلة الخلافات والمضي في اختيار الرئاسات الثلاث وتشكيل الحكومة الجديدة.