لا يمكن النظر لمحاولة «قوات سورية الديمقراطية- قسد» الرامية إلى عقد مؤتمر لـ«الشخصيات الديمقراطية» تحت رايتها، إلا كمحاولة لتجميع ما يمكن تجميعه في لحظة سياسية عصيبة بالنسبة لمشروعها الذي بات في وضعية الأفول بفعل عوامل عدة كانت قائمة دوماً، لكنها تكشفت فجأة في أعقاب الانسحاب الأميركي من أفغانستان في اليوم الأخير من شهر آب المنصرم، وما طفا على السطح بعيد ذلك الانسحاب، الذي نجم بالتأكيد عن إستراتيجية أميركية تقوم على أن طاقة اليد لا تكفي لحمل كل هذه البطيخات، فيما الطريق وعر صعوداً والمطبات عديدة، نقول ما طفا عنه كان كافيا لإثارة الهلع في المكون «القسدي» الذي لم تهدأ مخاوفه برغم سيل التطمينات التي كانت واشنطن ترسلها لتهدئة «حليف» الاحتياج المرحلي، وأيضاً لدفع هذا الأخير نحو إعادة حساباته من جديد في ضوء الإستراتيجية الأميركية التي تستجمع قواها لمواجهات بحر الصين الجنوبي، وما يلف لفيفها في المحيط الروسي الذي لا تريده هادئاً كمحور داعم للمواجهات سابقة الذكر.
صعّدت الرئيسة المشتركة لـ«مجلس سورية الديمقراطية- مسد» إلهام أحمد، من لهجتها بعد توقف المفاوضات مع الروس متهمة دمشق بعرقلتها «نتيجة لرفضها للشروط المسبقة» التي عنت بها هنا اعتراف دمشق بـ«الإدارة الذاتية»، واحتفاظ «قسد» بخصوصيتها العسكرية، وهذا الموقف جاء نتيجة لمعطيين اثنين، أولاهما جولة المحادثات التي أجراها مؤخراً مسؤولون أميركيون مع مسؤولين من «قسد»، وثانيهما توقيع الرئيس الأميركي جو بايدن للقانون 1605 المتضمن، تخصيص مبلغ 177 مليون دولار لـ«الوحدات المقاتلة ضد داعش» الأمر الذي قرأته قيادات «قسد» و«مسد» على أنه إشارة عملية تؤكد سيل التطمينات التي أعطاها المسؤولون الأميركيون في جولتهم سابقة الذكر.
تقول قراءة المعطيات إن «قسد» لا يمكن لها، بأي حال من الأحوال، أن تكون قادرة على ضبط الجغرافيا التي تسيطر عليها بما تحتويه من مخيمات ومراكز اعتقال لمقاتلين سابقين في صفوف «داعش» إذا ما انسحبت القوات الأميركية من تلك المناطق، وهي أيضاً لا تستطيع مواجهة حالة الرفض الشعبي المتصاعد لسلطتها في حال وقوع الفعل آنف الذكر، ومن المؤكد أن جميع المحاولات التي جرت لإقناع النسيج المجتمعي بأن «قسد» تمثل جزءاً من «السورنة» مع بعض التلاوين التي تفرضها عوامل معينة، كلها باءت بالفشل.
وسط هذه المعوقات التي راحت تتزايد حدتها في ضوء حالة «الاستبعاد السياسي» الذي عانت منه «قسد» سواء أكان من «الائتلاف» المعارض أم من «اللجنة الدستورية»، كان من المسوغ نمو حالة من «الغربة» السياسية التي تستدعي تخبطاً في الممارسة لا تنفك محاولات إخفائها أن تذهب إلى إظهار المزيد منها فتبدو هي المحرك الأساس في صناعة القرار، وهذا بالتأكيد يفسر، مثلاً، تراجع السيدة إلهام أحمد عن الوعود التي قطعتها إبان زيارتها الأخيرة لموسكو والقاضية بالاندفاع نحو حوار مثمر مع دمشق لا تسبقه أي شروط، فالأيام الأخيرة من العام المنصرم شهدت عودة جديدة لنغمة سابقة تقول إن بدء الحوار يقتضي أولاً اعتراف دمشق بـ«الإدارة الذاتية» كمكون سياسي ذي حيثية محددة، ويقتضي أيضاً اعترافها، أي اعتراف دمشق، بخصوصية «قسد» العسكرية، ويفسر أيضاً ذهاب «قسد» نحو عقد مؤتمر لـ«الشخصيات الديمقراطية» في أحد البلدان الأوروبية، للظهور بمظهر كيان يحظى بتأييد دولي، كبديل من استبعادها عن مسار التسوية السياسية للأزمة السورية، وتحديداً عن مسار «اللجنة الدستورية» الذي يفترض فيه أن يفضي إلى إنتاج دستور جديد للبلاد، ولذا، والحال هذه، فإن من المستحيل أن يتضمن الدستور «شرعنة» لمشروع «قسد» الانفصالي، والمؤكد هو أن الأخيرة تدرك أن استمرارية المشروع تصبح مستحيلة ما لم تكن هناك نصوص واضحة تعزز من «مشروعية» سلطة الأمر القائمة أياً تكن القوى التي تدعمها.
بشكل ما تحاول «قسد» تثبيت معادلة القامشلي كند لدمشق، والمحاولة هذه يدرك الكثير من القيمين عليها، أنها من النوع شديد البؤس، فلا حقائق التاريخ والجغرافيا يمكن أن تمنحها تلك الرفاهية، ولا «مشروعية الوجود» تقوم على ثوابت يمكن البناء عليها، وجل ما تمتلكه من أدوات هو دور وظيفي وضعت واشنطن أطره العريضة، بل تلك الضيقة، بشكل يحافظ على المصالح الأميركية بالدرجة الأولى، والراجح هو أن تلك المصالح باتت اليوم على مفترق طرق ومن المقدر لها أن تشهد انعطافة تودي إلى تغيرها، أي تغير تلك المصالح، بشكل جذري.
من حيث المعطيات فإن حوار دمشق مع «قسد» المؤجل بإيماءة أميركية لا يبدو مسألة شديدة الإلحاح قياساً لمسائل أخرى ترى الأولى أنها تتربع على عرش أولوياتها، فهناك التحضيرات واسعة الطيف لإتمام عودتها إلى محيطها العربي الذي سيمكنها من استعادة الدور المحوري الذي ما انفكت تلعبه منذ عقود، وهناك مسار «أستانا» الذي نجح، على الرغم من العثرات التي اعترت طريقه، في تثبيت حالة من الاستقرار كانت في بعض جوانبها مفيدة، ثم هناك جلسات «اللجنة الدستورية» التي ستنتج، مهما طال الوقت بها، دستوراً سيكون راسماً لسورية المستقبل، وما سبق يؤكد أن «قسد» هي الأحوج للحوار، وما التباعد الذي اختارت أن تختتم به العام مع دمشق سوى حالة مرحلية اقتضتها ضرورات سرعان ما ستزول بفعل المتغيرات التي بدأت غيومها بالتكاثف منذ صيف العام الماضي وخريفه.