إذا كان لكل مهنة علامات تدل عليها وإشارات تشير إليها فإن لمهنة الشعر علامات تجسدت في روح أنور العطار وإشارات سمت على محياه؛ حتى لتكاد تلك الإشارات والعلامات تنطق بشعره وهو صامت، إذا ما تراه إلا ساهماً هائماً حالماً.
ولد أنور العطار عام 1913 في أجواء الحرب، ولد محاطاً بالفقر واليتم فنشأ والحزن يعتمل في نفسه؛ فقد توفي أبوه صغيراً فكفله أخوه الأكبر، لم يفرح فرح الأطفال، ولم يله لهو الشباب، فعاش منطويا على نفسه بعيداً عن المجتمع والناس.
درس المرحلة الابتدائية في بعلبك، والثانوية في مكتب عنبر، وتخرج في كلية الآداب في جامعة دمشق.
إن رجلاً كهذا ذا نفسٍ مرهفة وحسٍّ ذائق لَهو أرضٌ خصبةٌ لقريحةٍ شعريةٍ متميزة، كيف لا وقد كان دوماً كأنه في حالة شبه غيبوبة، ينظرُ إلى الشخص وكأنه لا يراه، يعيشُ في عالمٍ آخر يتابعُ أحلامه الضائعة… حتى إذا ما توفَّر له لسانٌ فصيحٌ وواتتْهُ لغةٌ رائقة انطلقت شاعريته تدغدغُ خيالَهُ وتُلهِمُهُ أبكار المعاني فأتى بقصيدته الأولى وهو في التاسعة عشرة من عمره، وهي ستة وخمسون بيتاً، عنوانها (الشاعر)، وصف فيها الشاعر وحلل مشاعره بدقة كبيرة (الشاعر)، وكان مطلعها:
خليَّاه ينُحْ على عذباتِهِ
ويَصُغ من دموعِهِ آياتِهِ
ويرتِّلُ آياتِهِ بخشوعٍ
مُستمِداً من العُلى نفحاتِهِ
لقد عشِق أنور العطار الطبيعة وفني فيها حتى أسَرَه حبها فكان مثالاً كبيراً لبراعة الوصف ودقة التصوير… ها هو يصف الغوطة وصفاً شاعرياً دقيقاً؛ يقول:
عالم من نضارة واخضرار
فاتن الوشي عبقري الإطار
وأقاصيص تُسكر القلب والرو
ح روتها قيثارة الأطيار
وأناشيد رددتها السواقي
والتفاف الأنهار بالأنهار
ويندفع الشاعر في تصوير الطبيعة متأثراً بجمالها الأخّاذ وسحرها النفّاذ فتتوالى القصائد ملأى بأبكار المعاني وفرائد الأبيات… انظر إليه كيف يصور المتنزه الشهير (دمر) بأجمل الصور:
كل شيء يحيا بدمر فالسط
ح يغني والدوح يندى ويعبق
هوذا الياسمين مد على الصخـ
ر شباكاً من نوره وتسلق
تتغنى الحقول سكرى من العطـ
ر ومن سجعة الحمام المطوق
وحين توفي أنور العطار رحل بصمت ولم يشعر برحيله إلا القليل، ولم تكترث الصحافة كثيراً لوفاته ولم تنشر عن ذلك إلا أقل القليل؛ ولعل السبب في ذلك أن أنور العطار قد ظلم نفسه في حياته حين اعتزل النقاد ولم يتصل بأرباب الصحافة.
وكم في تاريخ الأدب من شعراء وكتاب كبار ظلموا أنفسهم حين اختاروا العزلة وحجبوا أنفسهم عن الأضواء.
ألا ليت الصحافة تعود لتكرم الشاعر الكبير أنور العطار الذي ظلم نفسه حياً وظلمناه ميتاً.