ثقافة وفن

في رحيل شاعر «العوديسة»!

| د. راتب سكر

قرأت قبل ساعات ما كتبه الأديبان الفلسطينيان رشاد أبو شاور وحسن حميد… على صفحتيهما ناعيين شاعر فلسطين المحبوب «خالد أبو خالد»!، فانتابتني رجفة من حالة انكسار صدم حالة استقبالي عاماً جديداً، وشلَّ قدرتي على متابعته، فانكفأت على ذات مغلولة القدرة على كتابة كلمة: «وداعاً!»، كعادتها في مثل هذه الحال!… وسرعانَ ما وجدتني أتابع كتابات أصدقاء كثيرين على صفحات كثيرة، محولة المشهد إلى موكب افتراضي، تتشابك فيه الأيدي ملوِّحة تلويحة وداع أسيان.

1، قبل نحو خمسة وعشرين عاماً رتبت مع د. حسن حميد تنفيذ فكرة استقبال خالد أبو خالد ضمن نشاط اللجنة الثقافية لكلية الآداب في جامعة البعث، ومحاورته حول تجربته فدائيا وشاعرا، وبعد تناول الكلمات تجربة تنقله خلف خطوط العدو ستة أشهر محفوفة بالمخاطر، وجدتني معقبا على شاعر «كان ينقِّل جزمته الطاهرة من مخيَّم إلى مخيم!»… فتعرضت للوم شديد من أصيحاب لي، إذ وصفت «جزمته» بالطاهرة!، ولم أفلح بالدفاع عن فكرة ترى بالفدائي الفلسطيني خلف خطوط العدو مشروع شهيد طاهر الروح والجسد والثياب.

2- كانت ثقافته الموسوعية تمنح صوته رنيناً خاصاً في تقديم برامج أدبية في الإذاعات، وكنت مع كثيرين من أقراني في المحافظات البعيدة عن العاصمة نشكل جماعات أدبية لا يسمع بها أحد سوانا، فنفاجأ بصوته الحاني ذي الرنين الخاص يتحدث من حين إلى حين عن قصائدنا المرتبكة، بحدب لا يعرف استكبارا، فيمنحها تحليله قوة تحليق يجتاز بها أمكنتها وأزمنتها إلى فضاء من قوة محبته وإيمانه العالي بقدرات أمته على الولادة والعطاء من جيل إلى جيل.

3- أصدر قبل اثنتي عَشْرَةَ سنة ديوانه الكبير «العوديسة»، مستلهماً عودة أوديس إلى أرض «إيثاكا»، تائهاً من بحر إلى بحر في «إلياذة» هوميروس، معادلاً فنياً لعودة الإنسان الفلسطيني إلى أرض فلسطين «وإن طال السفر»… جاء الديوان حافلاً باستلهام الثقافات العربية والإغريقية والعالمية، مستدعياً مناقشات طويلة متتالية، فوجدتني مع الصديق الشاعر د. نزار بريك هنيدي نشارك صاحب الديوان «خالد أبو خالد» في ندوة نظَّمها المركز الثقافي – أبو رمانة، أثارت جدلاً واسعاً حول التجلي الفني لأحلام العودة شعرياً…

4- نظمت مديرية الثقافة في حماة في عام 2009 ندوة نوعية للأديبين «خالد أبو خالد وحسن حميد»، وتداخلت الرؤى في مناقشة حضور الموضوع الفلسطيني في الأدب العربي المعاصر، وقدم د. إحسان هندي مداخلة عادت بالمناقشة إلى زمن استشهاد سعيد العاص ابن ربوع العاصي في فلسطين عام 1936، وامتد الحوار بعد الندوة إلى الممر الخارجي الطويل، فاغتنمت الفرصة ودعوت الأصدقاء لزيارة أبي المريض، وكان في سنواته الأخيرة قبل رحيله، فوجدت الدعوة تشجيع صاحب نشأته وابن حارته د. الهندي، وخالد أبو خالد الذي سرّه أن يسمع المزيد عن قوافل الثلاثينيات وصولاً إلى زمن النكبة وجيش الإنقاذ، وتحول حوار آبائي الثلاثة في تلك الساعة إلى ما يشبه العرس، ما دعا أمي إلى المشاركة بكلمات «زغرودة» عن فلسطين…. وقرأت للحاضرين قصيدتي التي أفخر بها «ابن العسكري الذي شارك في جيش الإنقاذ!».

5- اليوم يرحل الشاعر خالد أبو خالد تاركاً في يد كل منا جمرة من جمرات «العوديسة» العتيدة، قبضت كفي قليلاً، فزادت دمعة عيني من ألق جمرتها!.. وداعاً أيها الغالي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن