ثقافة وفن

المئذنة البيضاء رواية التاريخ والحاضر … يعرب العيسى يقرأ ويرصد ويحلل ما يدور حول رمزية الإنسان

| إسماعيل مروة

حين قرأت رواية (المئذنة البيضاء) للكاتب يعرب العيسى، حققت لي دهشة كنت أترقبها، ولم تخالف رؤيتي بالكاتب وآرائه، فقد سنحت الظروف لي بجلسات عديدة مع الأستاذ يعرب لا تمكنني من معرفة أسلوبه تماماً، ولا من سبر أغواره، مع أنه من الشخصيات القليلة التي تجعلك مرتاحاً إليها وإلى منطقها.. وهذه الرواية التي أشار ناشرها إلى أنها الأولى للكاتب تمثل كاتبها كما رأيته، وكما يراه الأصدقاء الأكثر قرباً منه، فهي الكاتب كما يحيا ويفكر ويعيش، وهي خزان معرفته، وهذا لا يتنافى مع الدهشة التي تحققت من قدرة الرواية وكاتبها على التسلل إلى أعماق القارئ بالحجة والمنطق والرأي، بل وبالفن، وأزعم أن البناء الفني للرواية كان متميزاً بكل مناحيه، وقدّم الكاتب رواية ناضجة متكاملة، ولم يفده التلطّي وراء وصفها بالرواية الأولى، وننتظر روايات أخرى..

روافد القص والحكاية

عادة ما تكون كلمة الغلاف إشادة أو قطعة، ولكن كلمة الغلاف هنا تشكل للقارئ رواسم يتناول من خلالها الرواية، وللحق فقد قرأت الرواية في يومين متتاليين لم أستطع مغادرتها قبل إنهائها، وبعد الفراغ منها قرأت كلمة الغلاف، فأكبرت ما فعله يعرب نفسه أو الناشر في هذه الكلمة الحقيقية: البحث الاستقصائي، الصحفي، السيري السياسي والاجتماعي، التفلسف والطرافة.. وهذه النقاط وقفت عندها لأنها تشكل بحق مفاتيح الرواية، فهي في الدرجة الأولى، وحسب الرؤية الإعلامية والبحثية استقصائية لم تستطع أن تغادر زاوية في حياة بطلها غريب (مايك) إلا ووقفت عندها، لأن الاستقصاء يخدم العمل الروائي.. ونقطة الصحفي الذي يتابع كل أمر، ويحتفظ بكل أمر، ويحلل كل أمر، بل إن يعرب العيسى أفاد بطريقة مذهلة من عمله الصحفي، وخاصة في تتبع الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية ليقدم رؤية لا تتحقق لروائي لا يملك الحسّ الصحفي، وليس لديه الأرشيف الصحفي، ولو في الذاكرة، من مثل أحداث لبنان، ووجود القوات السورية في لبنان، والصراعات بين الأجنحة اللبنانية، وتوثيق الأحداث والجلسات البرلمانية والانتخابية، ومن ثم أحداث العراق واحتلال الكويت، وتحرير الكويت والتفصيل في العلاقة مع أبي الصقر الذي يشكل مدخلاً لتحليل مظهر من مظاهر الفساد، هذه القضايا وسواها خاصة في بيان الإعلام ودوره، وبالتحديد فيما جرى في سورية خلال السنوات العشر الأخيرة قبل كتابة الرواية يجيدها الصحفي الممارس على الأرض.. وميزة السيري الاجتماعي والسياسي، فهي رصد للحياة السياسية والاجتماعية التي عاشها، والمواقع التي يتحدث عنها (الحمراء، دار الآداب، ساقية الجنزير، وسواها من الأماكن تشكل جزءاً من سيرة ذاكرة تحرك فيها المؤلف نفسه لذلك كان مقنعاً غاية الإقناع.. أما ميزة التفلسف والطرافة، فأنا أراها بشكل آخر، وأقول إن الكمّ المعرفي والقرائي عند يعرب تجلّى في تحليل القضايا ومعالجتها، وأغناها أيما إغناء، ويبدأ ذلك من اسم (مايك الشرقي) الذي أوجد له مسوغاته، لكن مسوغات المؤلف تتجلى في معالجته للشرق وأمراضه ومعاناته، خاصة أن الرواية ليست سورية، بل شرقية وليست عربية وحسب، على الرغم من مسرحها الأساسي (سورية ولبنان) إلا أنها كانت شرقية غادرت هذا المسرح الصغير ليكون الشرق مسرحها، والمعرفة العميقة للروائي بالتاريخ والأدب والديانة بمختلف الشرائع جعلته قادراً على مناقشة القضايا بالحجة والإقناع، لكنه شاء أن يكون متواضعاً فردّها إلى الطرافة والتفلسف التي أعطته مدى أوسع ليظهر حيادياً حيناً، ومنحازاً للقيم دوماً.

مسارات غريب (مايك)

من المئذنة البيضاء في الباب الشرقي، ومن الجامع الأموي، و راسم اللوحات في الطريق، وإلى العالم أجمع، والعودة إلى الباب الشرقي، والأموي الذي أنهى علاقته معه، وإلى راسم اللوحات تكتمل رحلة غريب الحصو (مايك الشرقي).

– من الأسرة المفككة، واليتم والنشر والذكريات المرة المتعلقة بأمه تبدأ رحلته، وفي حياته تظهر مرتين، مرة بذاتها، وأخرى بأخته التي تشبهها في كل شيء، لتكون المسوّغ في الضميري لمايك في رحلته وكل تصرفاته التي لم يشأ يعرب أن يجعل أياً منها من زاوية الانتقام الذاتي، ليتطهر غريب حين يرى أخته التائبة، وتروي له نهاية الأم في حادث سير تختم به مسار امرأة لاحقته لعنتها حتى النهاية.

– مسار العلم والتعليم من جامعة دمشق وإليها، والذي أكسب مايك ميزات لم يتحصل عليها سواه وأعطته مراتب في عمله، وهو القادر بثقافته، المطواع لإدراكه الواقع الذي هو منه، المتقبل لكل شيء من أجل الحياة.

– مسار الوصول إلى المال والمتعة والحياة دون النظر إلى المصدر، إن كان من مواخير الدعارة أو الغناء، أو من التحايل والسرقة، خاصة لمعلمه قسّام، وهو المدرك لخيوط اللعبة بنجاحها، ومن العمل على صفقات مشبوهة أعطته مهارات عليا.

– مسار الفساد السياسي والمشاركة في غسيل الأموال، خاصة مع أزمة احتلال الكويت ومشاركته مع أجنحة من الكويت والعراق في غسيل الأموال دون التفات إلى التآمر على الأوطان.

– مسار المتاجرة غير المشروعة والشركات المتعددة الجنسيات، والتي تمثل ستاراً لغسيل الأموال من لبنان إلى دبي إلى الصين واليونان ورومانيا وكل الدول التي أمكنه الوصول إليها.

– مسار الحياة الشخصية والخيبة، خاصة بعد موت من يحب، وصفع رفقة له، وعدم قبولها أي شيء منه، لأنها تدرك وتجاهر بأن هذه الأموال من الدعارة وتجارة الأجساد والمحرمات، فغدا مايك وحيداً لا وجود لمن يسعى من أجله.

– مسار الوطن سورية وما يعنيه له، وكيف عاد إليه مستغلاً وجود أناس في السلطة يساعدونه على الوصول إلى غاياته الاستثمارية ويسهلون له القضايا، ولو كانت على حساب الناس والوطن، ومن ثم بروز شخصيته التي تقدم العون لأسر شهداء الجيش وللمقاتلين الإرهابيين في الوقت نفسه، ويصل الأمر إلى محاولة إحراق (القريتين) وتشريد أهلها انتقاماً من أمه، وإبادة أهلها، لكنه يخفف العقوبة التي قرر أن ينزلها بهم.

– المسار الفكري، وقد كان مسوّغاً، بسبب دراسة غريب للفلسفة على يدي الكسم وبللوز وهنا، وهذا ما جعله قادراً على مناقشة القضايا العميقة الدينية مع المشايخ، وقراءة القرآن، والحديث وتفسير ما يشاء، وبطرائق مقنعة يخشاها الشيخ، وهو في الوقت نفسه عارف بالمسيحية، وقارئ للأساطير وما يمكن أن ينتظر حدوثه منها حسب الذاكرة الشعبية، ويحاول أن يوجد لكل أمر التفسير المناسب.

– مسار العالمية في حياته، فهو الذي تعامل مع الجميع بما في ذلك الطراد الإسرائيلي الذي قدم له عوناً ما في البحر، وربما كان الأمر متجاوزاً هذا، خاصة في اليونان وتنقله التجاري والسياسي والاقتصادي، وتعامله مع رؤوس الأموال.

– مسار الارتهان للذاكرة الجمعية ومشيئتها، خاصة في نهايات العمل الروائي حين يبدأ بالانحياز للاستسلام لما تمثله الذاكرة الجمعية من تخلٍ عن كل شيء، حتى إن عماله في النهاية يحاولون منعه من أن يتصرف بهذا البذخ ورمي جهد السنوات، وفي تعامله كذلك مع خساراته عندما تلاحقه القضايا، وتبدأ الأرصدة بالضياع نتيجة ملاحقة المؤسسات المعنية للأموال وغسيلها.

رصد الرواية وفكرها

أربعون عاما ترصدها الرواية من الحياة السورية والعربية، استعان الروائي في رصده بخبرته الإعلامية، ومجمل التحليلات التي صدرت في حينه، فقدم صورة لانتقال مراكز التجارة والمال من بيروت إلى دبي، كما قدم شرحاً وافياً لما يتم من صفقات لا تترك شيئاً، ولا يحسن أن نفصل ما بين رقيق الجسد والتجارة بالجنس، إلى التجارة بالمخدرات، إلى التجارة بالأوطان، دون أن يمنع هؤلاء مانع، وقدم ذلك كله بسرد شائق دون أن يعترض بأحكام أخلاقية، ومما يثير الإعجاب تلك الصراعات الفكرية، الدينية والعلمانية، التي حركت الرواية أو تحركت فيها، والتي قدّمها الكاتب ببراعة مستخدماً مخزونه القرائي والمعرفي، ليصل إلى النهاية التي تقول (هذا الشرق محكوم بالفساد والحروب، والذي يسير إلى نهاياته بقدم واثقة، دعارة ومجون وليال صاخبة، دسائس سياسية واقتصادية..) هذا العالم هو.

الشخصيات وبناؤها

لم تظهر شخصية إلا وكانت موظفة بشكل تام، ابتداء من مايك الشرقي المتأرجح بين مايك وغريب، الشخصية المحورية الحاملة لكل القضايا التي أرادها، والتي تتغير بتغير الجو المحيط، فتارة هي غريب، وأخرى مايك، وقد بنيت الشخصية بطريقة بارعة تصاعدية إلى أن همدت واستكانت، ولكن بخبث ومكر لتحقق الغاية من العمل الروائي الممتد، ولم يخلق أي شخصية ويتركها في الفراغ، حتى شخصية نسرين التي قدمت فاصلة محورية بموت قسام ثم غابت لتعود وتظهر في نهاية الرواية، في حوار لطيف وذكي مع مايك، وقد أ لبس الكاتب شخصياته المواصفات اللائقة والمناسبة لتكون منسجمة مع حكايتها ودورها.. وباختصار فإن الروائي برع في رسم شخصياته بالطريقة التي تجعلها منسجمة.

لغة الرواية

جاءت الرواية بعربية بسيطة سهلة خالية من المطبات التي يقع بها الكاتبون، وارتفعت سوية اللغة حين كان يعالج قضايا فكرية، لكنها كانت لغة موفقة وموظفة بما يلائم الشخصيات، ومع أن الروائي يتعرض لمجتمع السقوط والدعارة إلا أنه كان حريصاً دون أن يجبر نفسه على اختيار اللغة المهذبة والموحية في كثير من المفاصل.

وبعد

رواية المئذنة البيضاء ليعرب العيسى رواية شائقة وصادقة، ومعبرة غاية التعبير عمّا أراد أن يقوله في السقوط الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، واستطاعت أن تختصر الكثير من معاناة المجتمع الشرقي مع خطواته المتسارعة تجاه السقوط والحروب والدمار والفساد.. رواية أولى تتبعها روايات، وتبشر بقراءة متأنية متأملة لكل ما يدور في المجتمع العربي والشرقي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن