إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ…سعد اللـه ونوس.. جابه الموت وتمسك بالأمل.. فوهبنا روحه لنكون أمناء عليها ومخلصين لها
وائل العدس
ليس ككل المسرحيين ولا ككل المثقفين لأنه من طينة «المحكوم عليها بالأمل»، من الطينة التي تحدت الصعاب ولم تترك الهزائم المتتالية تنال من عزيمتها.
الراحل ابتدع أجمل ملجأ لكل من حاول التغيير وشعر بالانكسار، هذا الملجأ فسيح الأرجاء، اللامحدود الأركان، هو الأمل. الأمل وحده هو الذي غذى رغبة سعد اللـه ونوس في الحياة وتحدي المرض، فكانت النتيجة حياة في حياة وإنتاجاً فكرياً غزيراً انتزعه الكاتب من مخالب الموت، وأبى إلا أن يتركه يحيا بعده، يستنير به من يحتاج إلى شعلة في ظلام النكسة والانكسارات، بعد الهزائم المتلاحقة للعرب الرسميين. كأن سعد اللـه ونوس يقول للموت: يمكنك أن تأخذ الجسد، فهو ملك لك ولكن هيهات أن تأخذ الروح الثائرة التي تسكنني. الجسد قابل للتحلل على أي حال ولكن الروح الساكنة فيه تتحداك أيها الموت. حلت ذكرى رحيل هذا الهرم الشامخ وقد تحققت رؤياه في الحكم علينا بالأمل.
سيرة حياته
ولد سعد اللـه ونوس في قرية حصين البحر بمدينة طرطوس عام 1941 وتوفي عن عمر ستة وخمسين عاماً في الخامس عشر من أيار عام 1997 بعد حياة حافلة بالانجازات المسرحية والقلق الفكري الذي زلزل الكثير من المسلمات المسرحية التقليدية في العالم العربي.
وهو من أسرة فقيرة عاشت ضائقة مالية وصفها ونوس بأنها «سنوات بؤس وجوع وحرمان» ولما التحق بالمدرسة الابتدائية أظهر ضعفاً في مادة التعبير ما جعله يُكثِر من المطالعة عملاً بنصيحة مدرس اللغة العربية.
وكان أول كتاب اقتناه هو «دمعة وابتسامة» لجبران خليل جبران وكان عمره اثنتي عشرة سنة، ثم نمت مجموعة كتبه وتنوعت (طه حسين، ميخائيل نعيمة، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس… إلخ). وهكذا بعد انتهاء العام الدراسي قضى شهور الصيف يقرأ كل ما يقع تحت يديه، حتى عشق القراءة، وازداد ولعه بها إلى درجة أنه كان يشتري كتبه بالدَّيْن.
تابع الدراسة في ثانوية طرطوس حيث حصل على الثانوية العامة في عام 1959، وفي نفس العام حصل على منحة دراسية للحصول على ليسانس الصحافة في كلية الآداب بجامعة القاهرة. وفي هذه السنوات الأربع من الدراسة استطاع أن يطلّ على الأدب المسرحي من خلال محاضرات المرحوم الدكتور محمد مندور.
أثناء دراسته وقع الانفصال في الوحدة بين مصر وسورية ما أثر كثيراً فيه، وكانت هذه الواقعة هزة شخصية كبيرة دفعت به إلى كتابة أولى مسرحياته بعنوان «الحياة أبداً» عام 1961.
وبعدها تخرّج عام 1963 وعاد إلى دمشق حيث عُيِّن مشرفاً على قسم النقد بمجلة «المعرفة» التي تصدر عن وزارة الثقافة. وخلال عمله بالمجلة أصدرت عام 1964 عدداً خاصاً عن المسرح كتب فيه قسماً خاصاً بمصر ودراسة عن مسرح اللامعقول عند توفيق الحكيم.
وبعد ثلاث سنوات من العمل في المجلة تركز اهتمامه على المسرح وعندما سنحت له الفرصة سافر عام 1966 في إجازة دراسية إلى باريس لدراسة الأدب المسرحي في معهد الدراسات المسرحية التابع لجامعة السوربون.
وهناك وصلته أنباء هزيمة 1967 فتأثر كثيراً واعتبرها هزيمة شخصية له. وعبّر عن ألم هذه الهزيمة في مسرحيته التي أخذ شهرة بها «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968)، وأثناء ذلك عاد إلى دمشق يعاني آلاماً نفسية مبرّحة، جعلته يصف الشهور الأربعة التي قضاها فيها بعبارة «في بؤس تام وفي شبه غيبوبة». عاد بعدها إلى فرنسا التي سرعان ما شدته الحياة الفكرية فيها وأخرجته من عزلته.
مارس هناك حياة سياسية وساهم أثناء انتفاضة الطلاب في جامعات فرنسا مع زملائه في إقامة أحد المنابر للتعريف بالقضية الفلسطينية من خلال الخطب والمنشورات والكتيبات. وكان مؤمناً بالاشتراكية العلمية منهجاً وأسلوباً في الحياة، إلا أنه لم يعرف ارتباطاً بأي تنظيم حزبي.
وأخيراً أنهى دراسته في فرنسا عام 1968 وعاد إلى دمشق، فعُيِّن رئيساً لتحرير مجلة «أسامة» الخاصة بالأطفال من عام 1969 إلى عام 1975 حيث أخذ إجازة من دون راتب وعمل محرراً في صحيفة السفير البيروتية، وعندما هبّت الحرب الأهلية في لبنان عاد إلى دمشق ليعمل مديراً لمسرح القباني الذي تشرف عليه وزارة الثقافة. وأسس مع شريكه وصديقه المسرحي فواز الساجر فرقة المسرح التجريبي في دمشق والتي قدمت عدة عروض. وكان يهدف إلى تقديم مسرح وثائقي وسينما وثائقية تساهم في اكتشاف مشاكل المجتمع وفهمها، وتدعو إلى الإصلاح والتغيير.
كما عمل أيضاً مع مجموعة من المتحمسين للمسرح ومنهم علاء الدين كوكش على إقامة مهرجان دمشق المسرحي الأول 1969، وعُرِضت خلال هذا المهرجان مسرحيته «الفيل يا ملك الزمان». ونجح المهرجان على مستوى الوطن العربي، وتوقف بعد نسخته الثامنة في 1978 بسبب الأحوال السياسية الصعبة التي شهدتها المنطقة، ومنها الحرب الأهلية في لبنان، وفي عام 1977 أصدرت وزارة الثقافة مجلة مسرحية هي «الحياة المسرحية» وأوكلت إلى ونوس رئاسة تحريرها حتى عام 1988 وهي مجلة فصلية متخصصة في شؤون المسرح.
ساهم في إنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وعمل فيه مدرساً، كما أصدر مجلة «حياة المسرح»، وعمل رئيساً لتحريرها.
وقد كرم سعد اللـه ونوس في محافل عديدة أهمها مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي في دورته الأولى ومهرجان قرطاج في تونس عام 1989م وحصل على جائزة سلطان العويس الثقافية عن حقل المسرح في دورتها الأولى.
وصدرت أعماله الكاملة في عام 1996م، في ثلاثة مجلدات عن دار الأهالي بدمشق، جمعت فيها كل المسرحيات الطويلة والقصيرة والنصوص النظرية من بيانات وكتابات تتعلق بالمسرح وقد ترجمت مسرحياته إلى العديد من اللغات الأجنبية كما نشرت وتم عرضها في كثير من الدول العربية والأوروبية.
الضربة الموجعة
في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت عام 1982 اعتصم ونوس عن الكتابة لعقد من الزمن تقريباً، منذ أواخر السبعينيات ليعود إلى الكتابة في أوائل التسعينيات بمجموعة من المسرحيات السياسية بدءاً بمسرحية «الاغتصاب» (1990) التي تدور حول الصراع العربي الإسرائيلي، ومنذ ذلك الحين كتب «منمنمات تاريخية» (1994)، «طقوس الإشارات والتحولات» (1944)، «أحلام شقية» (1995)، «يوم من زماننا» (1995)، وأخيراً «ملحمة السراب» (1996) و«بلاد أضيق من الحب» (1996).
ويكاد ونوس أن يكون مؤرخ الهزائم العربية من «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» إلى «طقوس الإشارات والتحولات» (1994)، وعندما وقعت حرب الخليج (1990) عدها الضربة الأخيرة الموجعة. ويقول: «أشك معها في أنها كانت السبب المباشر لإصابتي بمرض السرطان، وليس مصادفة أن يبدأ الشعور بالإصابة بالورم أثناء الحرب والقصف الوحشي الأميركي على العراق».
وهكذا أصيب سعد بالمرض الخبيث وهو سرطان البلعوم في عام 1992، وقد حدد له الأطباء الفرنسيون مدة للمرض القاتل بستة أشهر وأن هذا الرجل سيفارق الحياة بعدها، لكنه كما عبّر هو نفسه فقد كافح المرض من خلال إصراره على الكتابة والتأليف والإبداع، وهكذا دخل في صراع استمر خمس سنوات مع المرض، ففي عام 1994 عاوده السرطان في الكبد وبدأ دورة علاج طويلة في دمشق.
مراحل في حياته
من الملاحظ أن ونوس دخل في مرحلة للتمعن والتأمل من نهاية السبعينيات وطوال سنوات الثمانينيات ولم يكتب خلال هذه المرحلة أي عمل مسرحي، وهي مرحلة جديرة بالتمعن، لما تمثله من نزاهة فكرية، ومحاسبة للنفس قبل محاسبة الآخر، والتردد أو الخوف في مخاطبة الآخر قبل مخاطبة النفس، لأن الكاتب دخل فيها رافضاً الاعتماد على البراعة أو الرصيد لتبرئة النفس.
جاءت مرحلة المرض بعد مرحلة التأمل ومحاسبة الذات، أنتج فيها ونوس ستة أعمال من أنضج ما تركه من أثر أدبي طوال مدة اشتغاله بالكتابة المسرحية. ربما أدرك أن المرض عضال وأن الشفاء منه بعيد المنال، فقرر التفرغ للكتابة واستراق الوقت من زمن الموت. استطاع باستماتته أن يسرق الحلم من الموت، واختلس لحظات خلود من زمن غال من مرآب كبير اسمه مرض السرطان.
فرحة ما تمت
في عام 1997 أبلغت لجنة جائزة نوبل للآداب إدارة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم المسرحي الكبير سعد اللـه ونوس بنيله جائزة نوبل للآداب وذلك عن ترشيح المجمع العلمي بحلب في سورية، ثم أجمعت على صحة الترشيح الأكاديميتان الفرنسية والسورية، لكن الموت قد سرقه بعد أيام قليلة من هذا الخبر فلم ينل الجائزة وهكذا رحل عن العالم في 15 أيار 1997.
الخفقة الأخيرة
«في الكتابة نقاوم الموت وندافع عن الحياة». هذا ما كان يردده سعد اللـه ونوس حتى الخفقة الأخيرة من حياته، ولا نستغرب إن كانت فترة صراعه مع المرض أغنى فترة في عمله الإبداعي. لقد كثّف ونّوس إبداعه خلال سنوات صراعه مع المرض بعدما قال له الأطباء إن أمامه فقط بضعة شهور ليعيش.
يقول ونوس بعد إصابته بالمرض الخبيث: إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ. منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان، وكانت الكتابة، والمسرح بالذات، أهم وسائل مقاومتي.
وأضاف: خلال السنوات الأربع، كتبت بصورة محمومة أعمالاً مسرحية عديدة. ولكن ذات يوم، سئلت وبما يشبه اللوم: ولِمَ هذا الإصرار على كتابة المسرحيات، في الوقت الذي ينحسر فيه المسرح، ويكاد يختفي من حياتنا! باغتني السؤال، وباغتني أكثر شعوري الحاد بأن السؤال استفزني، بل أغضبني. طبعاً من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة المديدة التي تربطني بالمسرح، وأنا أوضح له، أن التخلي عن الكتابة للمسرح، وأنا على تخوم العمر، هو جحود وخيانة لا تحتملها روحي، وقد يعجلان برحيلي.
وكان عليّ لو أردت الإجابة أن أضيف: إني مصر على الكتابة للمسرح، لأني أريد أن أدافع عنه، وأقدم جهدي كي يستمر هذا الفن الضروري حياً. وأخشى أنني أكرر نفسي لو استدركت هنا وقلت: إن المسرح في الواقع هو أكثر من فن، أنه ظاهرة حضارية مركبة سيزداد العالم وحشة وقبحاً وفقراً، لو أضاعها أو افتقر إليها. ومهما بدا الحصار شديداً، والواقع محبطاً، فإني متيقن أن تضافر الإرادات الطيبة، وعلى مستوى العالم، سيحمي الثقافة، ويعيد للمسرح ألقه ومكانته. إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ.
هكذا نتعلم من سعد اللـه ونوس كيف نجابه الموت، كيف نتمسك بالأمل، وكيف نكون صادقين مع أنفسنا ومع الوطن، هذا الوطن، هذا العشّ الدافئ الذي وُهِبنا الحياة في حضنه، ووَهَبَنا هو بدوره روحه لنكون أمناء عليها، مخلصين لها، ومدافعين عنها، من خلال إنسانيتنا ووعينا ويقظة ضميرنا.
اللقاء الأخير
وفي لقاء أخير معه قال: «إن إحساسي الجنائزي سيتضاعف أكثر وأكثر وأنا على حافة هذه التخوم الرجراجة بين الحياة والموت. أعتقد أن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً مثلاً، الكثير من الفرح وأهدرت الكثير من الإمكانات».