دون سابق إنذار يتحول من كنا نعاديهم إلى حكماء! ونبدأ الاستشهاد بهم وبأقوالهم وأفعالهم، ولا تنتهي هذه السلسلة من النقول والشواهد حتى يجد جديد، وهذا الأمر قد يكون طبيعياً، خاصة إن كان موظفاً توظيفاً حقيقياً، كأن يتبادل الأقوياء من معسكرين متقابلين الأقوال والاستشهادات حتى من خصومهم ليعززوا رأياً يريدونه، ولإقناع شريحة أكبر من أتباعهم بما يريدونه على لسان الخصم، أما نحن فنقرأ ونمر مروراً لا يستقيم بحال من الأحوال مع مرور الكرام، لأننا لسنا معنيين بشيء، ولسنا فاعلين في شيء، وإنما نحن من المتأثرين المنفعلين الذين تأتيهم الويلات، ولا ملجأ إلا الله والدعاء لتفريج الكربات! ومع الإيمان المطلق بالدعاء وأهميته، إلا أنه فعل عاجز إن لم يقترن بقضايا مهمة تدعمه وتعززه، وتمرّ الويلات وقد حصدت ما حصدت من أرواح ومقدرات وأرزاق، وحين تنجلي الصورة تكون الأرض خراباً، والأرواح طالها دمار لا يمكن تخيله، ومع ذلك يأتي من يسوّغ السلامة لمن سَلِم! ويأتي من يرى أن هذه النتائج هي أفضل النتائج، والأدهى أنها جاءت بسبب الدعاء!
الدعاء مخّ العبادة، تحول عندنا إلى مخ الحياة! وصارت قصة عبد المطلب عام الفيل منهج حياة عندنا، فالمتكاسل يرى الفرج بالدعاء، والعاجز يرى الدعاء، وكل ما يحصل في الحياة هو نتيجة الدعاء! فهلا استعرنا دعاء الدول المتحضرة التي سبقتنا! بم يدعو أولئك ونجهل دعاءهم؟
كيف يدعو أولئك لكرة القدم وللصحة ولكل شيء حتى تتم أمورهم على أحسن ما يرام؟ مهما كان الرأي، فالدعاء مهم، لكنه لا يعني شيئاً دون عمل وجهد وهذا في النص المقدس الذي نقرؤه في أي شريعة كانت، وليس في واحدة!
ولو نظرنا فيمن يطلب الدعاء منا، فإننا نجد أنه وفي قضاياه الخاصة يخطط وربما يتآمر، ويفعل الأفاعيل للوصول إلى مصالحه وغاياته، وحين يحدث الأمر ينسبه إلى الله وإلى الدعاء! ونحن نقتنع دوماً في أن ما حصل مخطط ومدروس، فلو قطع التيار الكهربائي يلجأ كثيرون إلى الدعاء، وإن فقد الغذاء عادوا إلى الدعاء، وحين يشتد البرد نسمع عبارات الدعاء، وحين وحين..
الدعاء بين العبد وربه، ولكن شريطة العمل والبحث عن الأسباب، فالدعاء لن يأتي بالغذاء، ولن يوصل التيار الكهربائي، ولن يجعلك حاملاً لشهادة عليا دون أن تبذل جهدك وتدرس، ولن يحلّ مشاكل الكون، ولن يعيد أرضاً محتلة، ولن يفعل أي شيء، ولا يعدو أن يكون حالة وجدانية تشعر الإنسان بالراحة بعد أن يفعل المطلوب منه، وبعد أن يعمل على مدار الساعة، ولن يفيدنا تعليق برناردشو الساخر (عدالة في الإنتاج وسوء في التوزيع) عندما علّق على طول لحيته وخلوّ رأسه من الشعر، وقبله بقرون طويلة أمرنا النص المقدس بالعمل وبذل الجهد لأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ومع ذلك يأتي اليوم من يجحد هذا، ويسمك بعدم الإيمان إن أنكرت دعاء العاجزين، وتوسل المتسولين!
ويأتي خصومك، ممن تظن أنهم يشاطرونك الرأي، فيدغدغونك عواطفك وتنحاز إلى آرائهم ناسياً أنهم خصومك! وتصبح الحكمة ضالة المؤمن!
ما نمرّ به كأمة وأفراد يؤكد أننا من المنفعلين وحسب، فالإنسان يكون لصاً ونشكو منه، لكننا نشفق عليه عندما يقع في ورطة، ونحاول إيجاد المسوغات له، وفي الجانب المعادي لسورية عدد لا يستهان به من الذين كانوا يجلسون على رقابنا، وكنا نعاني منهم ومن بطشهم وهم في السلطة، واليوم يأتي الذي يقول: هل سمعت فلاناً، قال كلاماً مهماً؟! هل تغيّر هو أم إننا بلا ذاكرة تسعفنا؟
علينا أن نؤمن بصدق الكاذب، وأن ندعو له بالصلاح، وأن ندعو لأنفسنا بالفرج، لابد أن تفرج!
ها قد مرّ عقد بعد عقود، ونحن نمارس- على رأي نزار قباني- القيام والقعود، ونلهث خلف أمنياتنا والدعاء دون أن نفعل شيئاً يجعل حياتنا أجمل، وما زلنا موزعين بين من يسدي الحكمة وهو يعاني من التخمة، وبين من يدعو للتغيير وهو في مكان ما، ومن يدعونا للتضرع إلى الله وهو لا يفعل!!