على الرغم من أنه يمكن النظر إلى يوم 16 حزيران الماضي، الذي شهد انعقاد القمة الروسية الأميركية، على أنه محطة التلاقي السورية الأولى بين الطرفين منذ اندلاع الأزمة السورية، إذ لطالما كان بيان جنيف1 شهر حزيران من العام 2012 الذي أريد له أن يحظى بتلك الصفة نقطة افتراق، أكثر منها نقطة تلاق، لم يطل الوقت بها لكي يتكشف للموقعين أن ثمة تفسيرات متناقضة لبنوده كانت كافية لتزيل عنها ذلك التوصيف، وعلى الرغم أيضاً من أن ذلك التوافق كان قد تعمق خلال القمة الافتراضية التي انعقدت ما بين الرئيسين جو بايدن وفلاديمير بوتين مطلع شهر كانون الأول المنصرم، نقول على الرغم من ذلك إلا أن الحراك الديبلوماسي الأميركي كان قد مر في الآونة الأخيرة بمحطات عدة يفهم منها أن واشنطن ماضية في ركب مسار من شأنه إعاقة التسوية السورية، وتلك مؤشرات تؤكد أن التلاقيات لا تزال منقوصة، وبمعنى آخر لا تزال هناك الكثير من المسائل العالقة التي تحتاج للمزيد من إعادة الحسابات قبيل أن تذهب واشنطن إلى تسليم موسكو ملف التسوية السورية من بابه إلى محرابه، الأمر الذي يمكن تلمسه في الإطار العام للسياسة التي تنتهجها إدارة الرئيس جو بايدن منذ تسلمها للسلطة في واشنطن قبيل نحو عام.
كانت أولى المحطات التي أمكن لحظها تتمثل في زيادة الدعمين السياسي والمادي لـ«الإدارة الذاتية» التي تمثل سلطة أمر واقع على أجزاء واسعة من شرق الفرات السوري، والفعل هنا، أي زيادة الدعم الأميركي، يرمي إلى إبعاد هذه المنظومة عن دمشق أولا، وعن تلاقياتها التي توسعت مؤخراً مع موسكو حتى وصلت حدود إعلان السيدة إلهام أحمد خلال زيارتها الأخيرة لموسكو عن قرار اتخذته «مجالسها» التي ترأسها يقضي بالدخول في حوار مع دمشق دون شروط مسبقة، قبل أن تنقلب عن هذا التموضع بعد «إيماءة» واشنطن التي تعمقت لاحقا بصدور القرار 1605 في 27 من شهر كانون الأول المنصرم الذي قضى بتخصيص 177 مليون دولار لـ«الوحدات المقاتلة ضد تنظيم داعش»، وعلى الرغم من أن الرقم السابق كان قد جاء ناقصا، وللأمر دلالاته التي تتخطى المبررات التي عرضتها واشنطن، بـ23 مليون دولار عن العام السابق، وبـ123 مليون دولار عن العام 2019، إلا أن «الإدارة الذاتية» قرأت الأمر على أنه ترجمة عملية لسيل الطمأنات التي ما انفك المسؤولون الأميركيون يرسلونها باتجاه «مسد» و«قسد» ومفادها أن لا انسحاب أميركياً من سورية في وقت قريب، لكن الراجح هو أن زمن السيل سابق الذكر قد تغيرت معطياته عن الوقت الذي أعطيت فيه قياساً للتوتر الأمني الذي بات محيطا بالوجود العسكري الأميركي في سورية، وإن لم يصل، ذلك الفعل، بعد لحدود يصبح فيها ضاغطا بما يكفي لطي الجنود حوائجهم، الفعل الذي يسبق عادة قراراً صدر على عجل يقضي باستعجال الرحيل.
ثاني المحطات يمكن تلمسه عبر المحاولات التركية – القطرية الساعية إلى إعادة تجميع شتات المعارضة السورية المتشظي بشكل غير مسبوق كما لم يكن عليه في أي يوم من الأيام، والفعل يستحضر محاولة جديدة لبعث نغمة «إسقاط النظام» التي طوتها مراحل مفصلية تجعل من مجرد طرح الفكرة بؤساً في التفكير يشير إلى عمق المأزق الذي يجد المحور التركي القطري نفسه فيه تجاه استعادة الدور السوري لجزء من حيويته على الرغم من ثقل الأوضاع الاقتصادية في الداخل، والتلمس إياه يشير أيضاً إلى أن المحاولة سابقة الذكر ليست ببعيدة عن الأصابع الأميركية الهادفة من وراء الخطوة إلى استعادة مناخات العامين 2012 و2013.
هاتان المحطتان، إضافة إلى شقيقات لهما أقل أهمية، يهدف الأميركيون من خلالهما إلى إبقاء الأوضاع السورية على ما هي عليه، الأمر الذي تراه واشنطن محققاً لمصالحها عبر تثبيت حالة «اللا حرب واللا سلم» التي تبقي ملفي شرق الفرات وإدلب كورقتين ضاغطتين على الحكومة السورية لحين نضوج التسوية الكبرى التي يبدو أن تراسيمها آخذة بالتشكل حتى لتلوح في الأفق، والرؤية إياها تتلاقى مع المصالح التركية التي يراها النظام التركي منسجمة مع ما يحقق له هذي الأخيرة بدرجة خادمة في تحييد تداعيات الأزمة السورية على داخل تركي مأزوم فيما تطوراته باتت مرهونة بالتقاطعات الحاصلة ما بين اللاعبين الروسي والأميركي.
يدرك الأميركيون المحركون لهذه الخيوط، قبل أي أحد آخر، أن الشعارات المطروحة بدءا من تقوية شوكة «قسد»، ووصولا إلى محاولة بث الحياة في جسد المعارضة المنخور بعشرات العلل عبر استعادة شعارات كان لها أثر محفز في وقت من الأوقات، أن هذا كله لن يكون سبيلا يمكن له إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، والإدراك عينه يدفع إلى التأكيد بأن المرامي الأميركية، التي تقبع وراء تلك السياسات، إنما ينحصر فحسب في إطار وضع العصي في دواليب التسوية السورية، وبشكل أكثر تحديداً عرقلة الجهود الروسية لوضع عربة الحل السورية على السكة، خصوصاً بعد النجاحات التي تحققت مؤخراً فظهرت في التسوية الحاصلة في الجنوب، وفي إعادة الحرارة للخطوط التي تربط دمشق بأبو ظبي، وقبلها بعمان، فيما تمارس القاهرة فعل الإحماء الذي يتحين الفرصة للحاق بتينك العاصمتين، وفي الحساب بأنها، أي تلك الفرصة، يجب أن تتناسب والثقل المصري الذي يفترض وجود «أبواب» تميل للاتساع أكثر مما ولجت منهما العاصمتان سابقتا الذكر.
العرقلة الأميركية مرحلية، ولا مؤشرات تؤكد أن واشنطن لا تريد للعاصفة السورية أن تهدأ، لكن ما يفرضها، أي ما يفرض على واشنطن وضع تلك العراقيل، هو حالة التضاد القائمة حول بعض التراسيم التي يصعب حدوث تلاقيات حولها أقله راهنا، الأمر الذي يفسر ذهاب موسكو لتفعيل الضغوط على القوات الأميركية الموجودة على الأراضي السورية بوصفها العائق الأكبر في مسار التسوية السياسية في سورية، مما بدت تباشيره تلوح في الأفق قبل نحو شهر، وتكاثفت بشائره بحلول الذكرى السنوية لاستشهاد قاسم سليماني.