حقّق الائتلاف اليساري الذي ينتمي إليه الحزب الشيوعي في تشيلي انتصاراً ساحقاً بفوز الرئيس كابرييل بوريك، مرشّح أقصى اليسار، والبالغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، على منافسه سيباستيان بينيرا، مرشّح اليمين، وبهذا تنضمّ تشيلي رسمياً إلى محور دول أميركا اللاتينية الديمقراطية لمناهضة الهيمنة الأميركية، والمصمّمة على السير ببرنامج استقلال وطني، بعد أن شكّلت كوبا وعلى مدى خمسين عاماً الماضية منارة للقرار الوطنيّ المستقلّ رغم الحصار الظالم والتهديد والوعيد، وانضمّت إليها قبل عقد ونيّف بوليفيا وفنزويلا والبرازيل في عهد الرئيس لولا دا سيلفا، الذي من المتوقّع أن يعيد البرازيل إلى هذا النهج في انتخابات العام القادم. وكانت تشيلي قد انتخبت سيلفادور أليندي، رئيس الحزب الاشتراكي في السبعينيات، ولكنّ المخابرات الأميركية نظّمت انقلاباً عسكرياً دموياً راح ضحيته آلاف اليساريين وقتها، وتمّ قتل الرئيس المنتخب.
مع انتصار هذه الحركات اليسارية التحرّرية، وانتقال العدوى من بلد إلى آخر في أميركا اللاتينية، وبعد إخفاق الولايات المتحدة الذريع بتغيير الحكم في فنزويلا، وهزيمة رجلها غويدو أمام تصميم الشعب الفنزويلي للحفاظ على استقلالية قراره والمضيّ في نهجه الوطني، يبدو أن الولايات المتحدة قد نقلت مركز اهتمامها من حديقتها الخلفية المعهودة إلى أوراسيا لتزعزع بذلك استقرار روسيا والصين، وتحاول تعطيل توجّهاتهما الإقليمية والدولية، وبذلك تضمن البقاء من أجل هيمنتها على مقدرات الدول ونهب ثروات الشعوب.
ما يجري اليوم في كازاخستان يفسّر لنا إلى حدّ ما سبب ما جرى في أفغانستان، وأقصد هنا الانسحاب الأميركي المفاجئ من أفغانستان، والذي احتار المحلّلون في تفسير أسبابه بسبب الفوضى التي خلّفها وراءه والأذى الذي سبّبه لصورة الولايات المتحدة. ولكن يبدو أن حسابات الولايات المتحدة كانت في مكان آخر مختلف تماماً عمّا جادت به قرائح من يحاولون أن يصنعوا انتصارات من كبوات الآخرين من دون أن يبذلوا جهداً أو يحرّكوا ساكناً، وتبدو الآن الأمور في آسيا مختلفة تماماً عمّا بدت عليه بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان؛ إذ إن هذا الانسحاب لم يعنِ الانكفاء أو التراجع نتيجة إدراك حجم الأخطاء وعدم تحقيق أي إنجاز يُذكر، بل إن الانسحاب يبدو اليوم بأنه تغيير في التكتيك والنهج والأسلوب طالما أن أسلوب استحضار القوّات كان باهظ التكاليف المادّية والمعنوية على حدّ سواء، وينضوي هذا التغيير، كما يبدو لنا الآن، على اعتماد جيوش خفيّة من الإرهابيين ونقلها من مكان إلى آخر لتحقيق الغرض من دون أن يلوّث الجيش الأميركي يديه أو سمعته بمثل هذه الأعمال، ولكن تقوم المخابرات الأميركية بتدريب وإدارة جيوش العملاء من إرهابيين ومرتزقة.
وبالعودة أكثر من خطوة إلى الوراء، وقبل اشتعال الأحداث في كازاخستان، شهدنا في منطقتنا تحرّكات الإرهابيين من العراق إلى سورية وبالعكس خلال الأحداث التي مرّت على هذين البلدين في العقد الأخير، ومن ثمّ تحريك الإرهابيين من ليبيا إلى سورية ومن ثمّ منها إلى ليبيا وأيضاً إلى إقليم ناغورني كاراباخ، حين اشتعلت الحرب بين أرمينيا وأذربيجان من دون أن تضطر الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى أن تستحضر قواتها إلى المكان، ولهذا فإن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يحرّر قدرتها على تحريك جيش خفيّ، تديره مخابراتها، من إرهابيين ومرتزقة كي يصبحوا متظاهرين ولا تتحمّل مسؤوليته المعنوية، ويمكن نقلهم إلى أي مكان تشاء، وتبدأ بإحداث القلاقل بغية تغيير النظام لتضمن سيطرتها على هذه البقعة الغنية في قلب آسيا، وأقصد كازاخستان، وتثير بذلك القلاقل لجارة هذا البلد الشمالية، روسيا، وجارته الجنوبية، الصين، وتمتدّ من كازاخستان لبلدان آسيا المجاورة، من دون أن يتمكّن أحد من توجيه أصبع الاتهام إلى دولة أو قوّة بعينها، ومن دون أن تتحمّل اللوم أو تضطرّ إلى الاعتراف بالخطأ بعد إخفاق مخططاتها كما اضطرّت إلى فعل ذلك في العراق وأفغانستان، وإن يكن الاعتراف بالخطأ بالنسبة للولايات المتحدة لا يعني أن أحداً سوف يأخذ الخطوات التالية ويعمل على محاسبتها لما تسبّبت به من أذى وأضرار لا تُحصى لشعوب هذه البلدان، لكونها القوّة الأولى في العالم وَضَعَها فوق المحاسبة وفوق القانون الدولي وفوق أي احتمال مساءلة حالياً، وخاصّة أنّ عملاء مخابراتها ينتشرون في المنظمات الدولية.
اليوم يشغلون الاتحاد الروسي في أوكرانيا وكازاخستان وصربيا، ويوجّهون ضربة جغرافية لـ«حزام واحد طريق واحد»، الذي يمرّ عبر كازاخستان إلى أوروبا، كما وجّهوا لهذا «الحزام» ضربة بإخراج المتظاهرين في بغداد لإسقاط حكومة عادل عبد المهدي التي كانت قد وقّعت مع الصين اتفاقاً للنفط مقابل المشاريع الكهربائية والتنموية في العراق.
وكان الرئيس شي جين بينغ قد أطلق مبادرة «الحزام والطريق» من أستانا عام 2013، وهناك أربعة طرق للصين باتجاه الغرب؛ عبر البرّ من خلال روسيا، وعبر كازاخستان، ثمّ أفغانستان ثالثاً وباكستان رابعاً، ولذلك فإن أي خلخلة في استقرار المنطقة يلحق الضرر بالصين، كما يلحقه بروسيا طبعاً، وخاصّة أن كازاخستان هي مصلحة أمن قومي عليا لروسيا لأنها تجعل من روسيا قوّة آسيوية، على حين أوكرانيا تجعل من روسيا قوّة أوروبية، وها نحن نلحظ العمل الغربيّ الحثيث ضدّ روسيا في كلتا الدولتين إضافة إلى صربيا طبعاً، وضدّ الصين في قلب أوراسيا.
والغريب في الأمر أن زبغنيو بريجنسكي قد نشر في كتابه الصادر عام 1997 بعنوان: The Grand Chessboard «لوحة الشطرنج الكبرى» خريطة ما سماه في حينها البلقان الأوراسي، واعتبر أن هذه هي المنطقة التي ستشهد أهم الصراعات الجيوسياسية في القرن الواحد والعشرين بين الغرب والصين وروسيا والهند.
مع أن اجتماع روسيا والناتو سيجري في 12 كانون الثاني في بروكسل، فقد عبّر الناتو عن عزمه على عقد مؤتمر طارئ عبر الفيديو لوزراء خارجية الدول الأعضاء فيه، استباقاً لاجتماع مجلس روسيا – الناتو كي ينسّقوا مواقفهم الغربية في وجه روسيا، وقد عقد هذا الاجتماع بالفعل في 7/12. مع أن الاجتماعات ستجري على ثلاثة مسارات؛ روسيا وأميركا أولاً، ثم روسيا والناتو، يليه اجتماع متعدّد الأطراف على مستوى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في فيينا، إلا أن التنسيق الغربيّ بين دول الناتو يشكّل جوهر المسألة ونقطة القوّة التي تستند إليها الدول الغربية في صراعها المتصاعد مع الشرق.
هناك نقطتان يوليهما الغرب الأهمية القصوى، ولم تلقيا الاهتمام المطلوب من دول الشرق، وهما التركيز على البحث والفكر، والبدء من خلال ما تنتجه النخب المفكرة أولاً. وإذا استذكرنا دور نظريات بريجنسكي وهنري كيسنجر في سياسة الولايات المتحدة في آسيا والشرق الأوسط، نلاحظ أنهما لعبا دوراً يفوق في أهميته ما قام به وزراء خارجية ورؤساء الولايات المتحدة. وهذه الأفكار والخطط لا تبقى حبيسة الأدراج، بل تنتقل إلى ماكينة إعلامية تخلق منها واقعاً في أذهان العالم قبل أن تتمّ ترجمتها إلى خطوات عملية على الأرض. والأمر الثاني هو التنسيق بين دول الناتو. واليوم هناك مجموعة أخرى هي الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا التي تنسّق مواقفها ضدّ الصين أيضاً في البرّ والبحر، على حين تفتقر دول الشرق وروسيا والصين ودول البريكس ومنظمة شنغهاي إلى مثل هذا التنسيق الفوري، الذي يسبق كلّ حوار أو محادثات تتناول أموراً جوهرية في تموضع العالم والدول التي تشكله.
مع أن الأحداث مازالت في بداياتها في كازاخستان إلا أن القراءة الأولية توحي أننا دخلنا عهد صراعات القوّة بين أميركا وروسيا والصين، حيث تشتعل الجبهات المشتركة بينهم في أوكرانيا وصربيا وكازاخستان وتايوان. والمهمّ في هذا الصّدد أن هذا الصراع يستمرّ سنوات طويلة ويأخذ أشكالاً مختلفة؛ لذلك المطلوب هو فهم الآلية التي يعتمدها الغرب للحفاظ على يد عليا في هذا الصراع، ومحاولة اجتراح آليات مشابهة لأن العوامل الموضوعية لدى روسيا والصين قوية وفعالة، ولكن آليات العمل الغربية المتجذّرة، والتي طوّروها على مدى عقود، تعتمد الفكر والبحث والتنسيق والإعلام والعمليات المخابراتية السّريّة كأدوات أساسية في التخطيط واستباق المعارك التفاوضية أو الميدانية، ولا مناص لروسيا والصين من فعل الشيء ذاته بينهما أو بين الدول التي سوف تنضمّ إلى مسارهما عاجلاً أم آجلاً.