قد لا يبدو الخوض في تفاصيل السياسة الأميركية وتوجيه سهام الانتقاد لازدواجيتها وعبثيتها، بالأمر الجديد، ولاسيما مع حالة الفوضى المتنامية حول العالم والاتهامات الموجهة مباشرة للسياسة الأميركية بالتورط في هذه الفوضى التي أسالت خلال السنوات القليلة الماضية ما يكفي من دماء، عقدت المشهد الدولي بصورة لم يعهدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لكن العودة للبحث في العناوين واستذكار التفاصيل ربما تشكل بعض الضرورة اليوم مع استعادة أميركا لمفردات قديمة واستلالها من جديد سيف «نشر الديمقراطية» في وجه كل من يعادي سياساتها التي لم تجلب للعالم سوى الحروب والدمار والفوضى والتي دفعت ولاتزال تدفع ثمنها شعوب عديدة حول العالم.
ورغم مضي نحو شهر على انعقاد قمة الديمقراطية الافتراضية غير أن الأداء الأميركي والإعلان عن رصد المزيد من الأموال لنشر أفكار أميركا «الديمقراطية» في ظل عالم يعج بالانقسام وعدم الاستقرار، يشي بأن عام أميركا الجديد لايبدو أنه سيحمل غير المزيد من هذه الفوضى، وهو ما تستشعره حكومات كبرى حول العالم تأتي على رأسها الصين وروسيا.
التقليل من شأن أميركا وتوجيه الانتقادات والادعاء بأن مؤتمرها لم يحكمه غير الفشل، سيبدو نوعاً من عدم الواقعية، فحجم الولايات المتحدة في السياسة الدولية معروف، وكذلك قدرتها الاستخباراتية والعسكرية والاقتصادية، لكن التساؤل المطروح اليوم لماذا تستعين أميركا مجدداً بسلاح «نشر الديمقراطية» بعد خوضها أفشل حربين باسم هذا الشعار وخروجها مهزومة من أفغانستان والعراق، وترك البلدين لفوضى لايعرف متى وكيف ستنتهي، ولماذا تعيد رصد ملايين الدولارات مرة أخرى لتطبيق شعاراتها المكشوفة الأهداف والعناوين.
الحديث بواقعية عن قدرات أميركا بالمقابل لا يعني أنها لا تزال قدراً كما تسوق أدواتها، ولا يعني بالتأكيد أنها لا تزال متسيدة الساحة الدولية، ورفضها وجود شركاء دوليين في اقتسام النفوذ والقرار الدولي وبأن هؤلاء الشركاء غير موجودين وكذلك العالم تغير على النحو الذي لا تريده، والذي لن يمكنها من إعادة عقارب الزمن إلى الوراء.
صحيح وكما يقول ميكافيلي بأن «ذاكرة الشعوب قصيرة»، لكن هذه الذاكرة القصيرة لا تزال تتذكر حتى الآن حجم الخراب والدمار الذي حل على هذه الأرض أينما حلت أميركا، وشعوب منطقتنا تعرف كيف افتعلت الحروب على أرضها لتشغيل شركات السلاح الأميركي ونهب ثرواتها واستلاب إرادتها، وكيف غزا الإرهابيون مدنهم بدعم وغطاء أميركي واشتعلت الحروب الطائفية والعرقية وظهر الانفصاليون، وظهرت موجات اللجوء والفقر، وقتل خيرة علماء وقادة هذه المنطقة، ومعهم مئات الآلاف من أبنائها، وكل هذا جرى بالسلاح «الديمقراطي» الفتاك، أو كما وصفته بكين، سلاح الدمار الشامل الأميركي.
خطوات واشنطن العدائية المتلاحقة ضد الصين ومعها روسيا ومحاولات التحرش بحدود أمنها القومي، واستدراجها نحو صراعات لا طائل منها، واستخدام سلاح الديمقراطية مجدداً لن يكون له طائل هذه المرة، لأن «استخدام الأحجار القديمة لن يصلح بالتأكيد لبناء جديد» كما يقول المثل الإنكليزي الشهير.
وزير الخارجية السابق والسياسي الألماني الخبير يوشكا فيشر كان له التوصيف الأجمل والأذكى والأكثر اختصاراً للسياسية الأميركية عندما قال: «أميركا دولة مجبولة بتكرار أخطاء الماضي من غير التعلم من دروس التاريخ، وكأن هناك دافعاً قسرياً يدفعها للسير في هذا الاتجاه».