فرنسا تحصد نتائج إخفاق المؤسسة الحاكمة
القاهرة – فارس رياض الجيرودي :
تثبت التفجيرات الإرهابية الأخيرة التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس أكثر ما تثبت إخفاق أنظمة الحكم الليبرالية الغربية في تحقيق ما تدعيه لنفسها من قدرة على إصلاح الأخطاء وعدم السماح بتكرارها، وعلى محاسبة من يتولى دفة القيادة والمسؤولية، وتنحيته في حال استلزم الأمر، فالتفجيرات التي جاءت بعد أشهر قليلة من أحداث صحيفة شارلي إيبدو في باريس، وبعد سنين من تجاهل الرئيس الفرنسي لعشرات التقارير الأمنية على مكتبه التي رفعتها أجهزة الاستخبارات الفرنسية وحذرت فيها من ارتباطات إرهابية للمجموعات المسلحة التي تدعمها الحكومة الفرنسية على الأرض السورية تحت يافطة المعارضة المعتدلة، وما ستجلبه سياسة الحكومة الفرنسية الداعمة لزعزعة أمن الدول الوطنية في حوض المتوسط وعلى رأسها سورية من كوارث على أمن أوروبا و(فرنسا خاصة) باعتبارها البلد الذي يستضيف القسم الأكبر من مسلمي أوروبا.
لقد تجاهل فرانسوا هولاند الأخطار المحدقة بالأمن القومي الفرنسي لمصلحة ارتباطاته المالية ومصالحه الشخصية مع أمراء ومشايخ دويلات النفط الخليجية الذين بدؤوا بدعمه منذ كان يخوض حملة ترشيحه الانتخابية لمنصب رئاسة الجمهورية، حيث ابتاعت الاستثمارات الخليجية منه مصنعاً (خاسراً) لحقائب اليد النسائية كان يملكه في ليون كما تقول التقارير، وهكذا نجح أمراء النفط في شراء السياسة الخارجية في بلد ديغول وتحويلها لمجرد تابع للسياسات الأميركية ومزاود عليها أحياناً، وهو ما كان الأمر عليه في عهد سلفي أولاند، (ساركوزي وشيراك) اللذين ثبت تلقيهما رشا مالية من أمراء وحكام عرب، وعلى حين تمارس الولايات المتحدة سياسة الرقص مع الإرهابيين خدمةً لمصالح جيوسياسية واستعمارية في المنطقة تتعلق بالنفوذ وحماية إسرائيل، ولمواجهة القوى الصاعدة في أوراسيا (الصين وروسيا وإيران)، دون أن تؤثر تلك السياسة الخطرة بشكل مباشر في الأمن القومي لأميركا التي تفصلها المحيطات عن العالم العربي، ورطت النخبة الحاكمة الفرنسية بلادها في دعم جماعات تشكل خطراً مباشراً على أمنها في كل من سورية وليبيا، ودون أن يكون لتلك السياسات أي عوائد إستراتيجية إيجابية لفرنسا التي سبق أن أدرك زعيمها شارل ديغول منذ خمسين عاماً أن دورها الاستعماري في العالم انتهى، وأن قيمة السياسة الخارجية الفرنسية تنبع من استقلاليتها عن السياسات الأميركية، وفي تماهيها مع شعارات الحرية وحقوق الإنسان التي رفعتها الثورة الفرنسية، في التعامل مع المجتمعات والدول خارج القارة الأوروبية البيضاء هذه المرة و(ليس فقط داخلها كما كان عليه الحال في الحقبة الاستعمارية)، فعاقب ديغول إسرائيل إثر حرب 1967 وحظر بيع السلاح الفرنسي لها، وسعى لمد جسور التعاون مع مصر الناصرية، ولبناء علاقات مع الاتحاد السوفييتي تميز بلده عن بقية البلدان الغربية التابعة لأميركا، وأخيراً وليس آخراً سحب قواته من حلف الناتو.
لقد نقلت صحيفة (لوفيغارو) الفرنسية عن فابريس بالانش مدير البحوث والدراسات حول البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وهو أستاذ محاضر في جامعة ليون الثانية قوله: «في خضم الأزمة في سورية أثبت الرئيس بشار الأسد أنه كان العامل الأقوى في وجه المجموعات الإرهابية بمختلف أطيافها، فلا يزال الرئيس الأسد يحظى بتأييد واسع من السوريين الذين يؤيدون بقاءه في سدة الحكم، فهو الأجدر باستعادة الأمن في البلاد».
يضيف بالانش: «في الحقيقة لم يفعل الرئيس الأسد خلال الأزمة في سورية ما فعله غيره من الرؤساء العرب ممن سعوا للتفاوض حول «التنحي» مقابل «المنفى الذهبي» في ربوع الولايات المتحدة الأميركية، بل على العكس مضى قدماً في محاربة التنظيمات الإرهابية، وهذا ما متّن شرعيته ليغدو اليوم أقوى مما كان عليه مطلع الأزمة، على حين لا تزال السعودية وتركيا المموّلتان الرئيسيتان لتسليح الإرهابيين تسعيان إلى «إسقاط» الدولة السورية ولو كلفهما ذلك سنوات أخرى من الحرب وهو ما سيجر آثاراً سلبية على استقرار المنطقة ولا سيما لبنان والأردن وكذلك على أوروبا التي سيتدفق عليها ملايين اللاجئين».
فهل تجد السياسة الفرنسية الخارجية طريقها للتحرر من أسر المزايدات الشخصية المغرورة التي أطلقها المسؤولون عنها تجاه سورية وقيادتها، كما سبق أن فعل مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة شارل ديغول الذي اتخذ قرارات تاريخية من قبيل الانسحاب من الجزائر، والاعتراف بنهاية حقبة الاستعمار، وبضرورة قيم احترام القانون الدولي وسيادة الدول، أم تخفق المؤسسة الحاكمة في فرنسا في التخلص من متلقي الرشا من أمراء النفط والغاز الذين يعتلون سدة المسؤولية فيها؟