توجهت أنظار العالم في الأسبوع الماضي إلى كازاخستان، لمراقبة تطور الأحداث التي اندلعت فيها، والتي تقع جغرافياً في الحديقة الخلفية لروسيا، وتعد من أكبر دول آسيا الوسطى مساحة وأغناها من ناحية ثرواتها الطبيعية، وتعتبر من أبرز مسالك طريق الحرير الصيني.
جاءت أحداث كازاخستان في ظل التوتر الأميركي الروسي الحاصل في أوكرانيا، لتزيد من الضغط الأميركي على روسيا في محاولة لاستكمال محاصرتها بكل السبل المتاحة، ومن خلال كازاخستان التي تتشارك وروسيا حدوداً برية تبلغ نحو 7000 كلم، و30 بالمئة من سكانها ينحدرون من العرق الروسي، والأهم هو أن كازاخستان والصين، تتقاسمان حدوداً طولها 1500 كم.
ويضاف إلى ما ذكر، الثروات الطبيعية الضخمة التي تمتلكها كازاخستان، وتقدَّر قيمتها بـ12 تريليون دولار، وأهمها اليورانيوم والكروم والرصاص والزنك والمغنزيوم والنحاس والفحم والذهب والحديد والألماس والبترول والغاز، ما يجعلها محفزاً لأطماع الأميركي والإسرائيلي.
ثمة انطباع أن بلداً مثل كازاخستان، لا يمكن لاحتجاجات محلية أن تبلغ في وقت قياسي هذا المنسوب العالي من العنف، فهل ما جرى في كازاخستان يرتقي إلى مستوى التخطيط والتنفيذ المسبق والشبيه بما جرى في أحداث ما سمي بالربيع العربي وتحديداً في سورية 2011؟
الرئيس الكازاخستاني قاسم توكاييف قال صراحة: إن عناصر معادية ومسلحة تلقت تدريباً خارج البلاد، هي من تقوم بالهجمات والتخريب ضد المطارات ومراكز الدولة.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قرر التدخل الفوري في كازاخستان، وذلك تلبية لدعوة توكاييف الذي طالب دول الأمن الجماعي، بالمساعدة لاستعادة الأمن في بلاده، وخصوصاً بعد أن أعادت تلك الأحداث لبوتين شريط مؤامرات كبرى، سعت إليها الإدارة الأميركية من خلال ما سمي بالثورات الملوّنة، في كل من جورجيا وأوكرانيا عام 2004، وفي قرغيزيا عام 2010، وفي جورجيا مرة أخرى عام 2008، ثم في أوكرانيا من جديد عام 2014، وأخيراً في روسيا البيضاء العام الماضي، مع استمرار مساعي واشنطن وحلفائها لتضييق الحصار على روسيا في البحر الأسود.
من جهة أخرى وبعد بروز الدور التركي المؤيد والداعم لأذربيجان في حربها مع أرمينيا، يحضر السؤال عن الدور التركي في أحداث كازاخستان، فالمؤكد أن الرئيس التركي رجب أردوغان، ليس بعيداً عن المشهد في كازاخستان وعن إمكانية تحقيق حلمه الطوراني في بلاد «ستان»، وخصوصاً بعد دعوته لإنشاء اتحاد بين الدول التي يقطنها أعراق ناطقة باللغة التركية، وذلك تحت شعار أمة تركية واحدة، ولم يعد خافياً على أحد نية أردوغان في إعادة إحياء وتحقيق الحلم العثماني القديم في تلك البلدان.
مما لا شك فيه أن الرئيس الروسي بوتين، منزعج من إعلان أنقرة تأييدها لأوكرانيا وتزويدها بطائرات بيرقدار من دون طيار، الأمر الذي أقر به وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، ولعل بوتين أدرك متأخراً خطأ روسيا الدخول في بازارات موسعة مع أردوغان، في كل من ليبيا وسورية، الأمر الذي سمح لأردوغان في تقديم أوراق اعتماده للأميركي، بأنه القادر على لعب دور مهم في سياسات الحديقة الخلفية لروسيا والمشاركة في تطويقها، إضافة إلى دور المنفذ للأجندة الأميركية الصهيونية في تطويق سورية وإطالة الأزمة فيها، والتي لا تصب في مصلحة المنطقة العربية بل إنها تخدم العدو الإسرائيلي بوضوح.
هنا يتبادر إلينا السؤال:
هل أدركت روسيا أن أردوغان يقود حصان طروادة الأميركي في حديقة روسيا الخلفية، وأنه لم يف بتعهداته لروسيا في سورية، وأن إبقاء الوضع الراهن فيها على ما هو عليه يشكل عائقاً أمام تعافي الدولة السورية الحليفة اقتصادياً، وحاجزاً أمام استكمال تحرير باقي الجغرافيا السورية من الاحتلال التركي والأميركي، ومن مجاميع التنظيمات الإرهابية المدعومة من أردوغان بالتكافل والتضامن مع أميركا والعدو الإسرائيلي؟
هل أدرك الروسي أن السكوت المستمر عن دور تركيا المشبوه في سورية، وعن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليها وعلى ميناء اللاذقية ومحيط مطار دمشق الدولي تحديداً، قد أضحى مصدر قلق دائم وأثار حفيظة الشعب السوري الذي بدأ برفع الصوت متسائلاً عن الأهداف الحقيقية وراء التنسيق الروسي الإسرائيلي وعن السكوت الروسي الدائم عن الاعتداءات الإسرائيلية على سورية.
إن أعداء روسيا في كازاخستان، هم أنفسهم أعداء سورية، الحليف الإستراتيجي لروسيا، وإن معاناة سورية مع الإرهاب يمكن انتقالها إلى موسكو، من خلال الحديقة الخلفية لروسيا، وبمساعدة أردوغان وأميركا وإسرائيل، فالحيادية الروسية لم تعد ذات منفعة، بل إنها أضحت المعضلة التي تشكل الضرر الأكبر على سورية، وبالتالي على روسيا نفسها.
على الرغم من دفع روسيا بقواتها نحو كازاخستان، ونجاحها في استعادة الأمن والهدوء النسبي، وإعادة السيطرة على المطارات والمباني الحكومية فيها، إلا أن ما حصل في كازاخستان هو بمنزلة صفارات الإنذار التي تسبق الغارة، والحقيقة أن روسيا الآن، أضحت في مواجهة غارة أميركية تركية مزدوجة، تنطلق من بين ظهرانيها وبشكل متواصل، والكارثة ستقع في حال امتداد الأزمة واستمرار الغارات الأميركية التركية على المنطقة القوقازية، الممتدة من طاجكستان وتركمانستان وقيرغيزستان وأذربيجان ناهيك عن طوق الناتو الممتد من جورجيا إلى أوكرانيا.
وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن وتعقيباً على أحداث كازاخستان ودخول القوات الروسية إليها صرح قائلاً: إذا دخل الروس إلى بيتك فمن الصعب الطلب إليهم أو إجبارهم على المغادرة.
بدورها المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا ردت على تصريح بلينكن بالقول:
إذا دخل الأميركيون بيتك يصعب عليك البقاء على قيد الحياة.
وهنا نقول إن الروسي «في زمن الاتحاد السوفييتي» خرج أو أخرج من أفغانستان، وتركها دولة قائمة بمؤسساتها، وذلك بعد استثمار أميركي ناجع بالتنظيمات الإسلامية، وتحت شعار محاربة الشيوعية الملحدة، أما أميركا التي احتلت أفغانستان لمدة عشرين سنة انسحبت منها، ولم تترك أي أثر لمؤسسات الدولة فيها، وخصوصاً بعد الاستيلاء على ثرواتها ومصادرة أموال البنك المركزي الأفغاني.
الأميركي والتركي والإسرائيلي اتخذوا من الحديقة الخلفية لروسيا مسرحاً وملعباً، لتنفيذ ما يسمى بربيع آسيا الوسطى بهدف الانقضاض على روسيا وتقطيع أوصال طريق الحرير الصيني، ويبقى السؤال حول جدوى استمرار البازارات الروسية مع تركيا والحياد الروسي في ساحة الحليف الإستراتيجي سورية.