تتبجح قوات الاحتلال الأميركي في سورية، بقدرتها على استشعار خطر الإرهاب، وتتفاخر بقدرتها على «اصطياد» أي إرهابي بشكل دقيق من على دراجة نارية، كما ادعت حينما استهدفت بطائرة مسيرة من طراز «MQ-9 Reaper» متزعماً في «حراس الدين» التابع لتنظيم «القاعدة» على طريق المسطومة جنوب إدلب، في الثالث من الشهر الماضي، ليكون السؤال، ماذا بشأن إستحضار عينها العوراء في مشهدية ظهور متزعم تنظيم «جبهة النصرة» الإرهابي المدعو أبو محمد الجولاني في إدلب مؤخراً وبشكل علني في باب الهوى، وسط تحليق مكثف لطيران استطلاع الاحتلال الأميركي؟
بين ظهور الجولاني العلني، وتحليق «المسير» الكثيف، ثمة الكثير من الحقائق، والتأويلات والتحليلات، أولاها إظهار مفارقة تكشف الكثير من الخبايا عن عمق التنسيق بين «النصرة» والإدارة الأميركية، وثانيتها عدم جدية الإدارة الأميركية في نيتها بالتخلص من الجولاني، وهي من أعلنت عبر برنامج «مكافآت من أجل العدالة» التابع لوزارة الخارجية الأميركية، يوم 24 من تشرين الثاني 2020، وبشكل حرفي «الجولاني يتظاهر بالاهتمام بـسورية لكن الناس لم ينسوا جرائم تنظيم جبهة النصرة بحقهم… إذا كان لديك معلومات عنه قد تحصل على مكافأة تصل إلى 10 ملايين دولار، أرسل ما لديك إلى برنامج مكافآت من أجل العدالة عبر سكنال أو تلغرام أو واتس أب على 0012022941037»، وثالثة الحقائق «المضحكة» ربما تأكد صاحب القرار باستهداف الجولاني، أن المال الأميركي حرام، وهو نتاج لصوصية طالت لقمة الشعب السوري، وسرقة خيراته من النفط والقمح، أو إيمانه بأن كلام السياسة يمحوه كلام العسكر.
كل ما سبق من تحليل واتهام للإدارة الأميركية بالتقاعس في استهداف الجولاني نابع من الرهان على أن تلك الإدارة تريد محاربة الإرهاب فعلا، لكن الحقيقة هي بخلاف ذلك بكثير، فوجود الاحتلال الأميركي في سورية، لم يكن في يوم من الأيام لأجل ذلك، ولسبب بسيط أن الإرهاب يشكل أحد قنواتها المساعدة في تحقيق أهدافها الإستراتيجية في سورية والمنطقة، وهي إضعاف الدولة السورية وتفتيتها، وصولاً إلى إجبارها على الانصياع لإملاءاتها واللحاق بالركب الصهيوني في المنطقة، بل إن تلك الإدارة تعمل بشكل علني على الاستثمار في الإرهاب، وهو ما يبدو جلياً من خلال محاولتها إعادة إحياء تنظيم داعش الإرهابي وإعادة إطلاقه في سورية والعراق، وما يؤكد ذلك خبر إعادة تأهيل مسلحي التنظيم بعد إخراجهم من سجون ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية- قسد» وتجميعهم في قاعدتها غير الشرعية في التنف، وصولاً إلى ترسيخ مقولتها بضرورة بقاء قواتها المحتلة في المنطقة.
في الحقيقة أيضاً فإن اهتمام الإدارة الأميركية ليس سورية بشكل عام، ولا إدلب بالتحديد، بل مناطق شرق سورية، حيث تسيطر أداتها هناك ميليشيات «قسد» على مقدرات وخيرات سورية النفطية، والتي تتخذ منها أداة ضغط على الحكومة السورية، لتحقيق بعض مصالح الحلفاء لها، وجسر عبور للمشروع الصهيوني إلى المنطقة، وهو ما يمكن تفسيره في حديث مجلة «فورين بوليسي» الأميركية بأن الرئيس الأميركي جو بايدن خلص إلى أن خفض التصعيد يخدم بشكل أفضل مجموعة من الأهداف الجيوستراتيجية المرتبطة بالصراع السوري وأوسع نطاقاً من الحرب، وهي تقوم على الاعتراف الضمني بأن الرئيس بشار الأسد قد انتصر ولا يمكن لأي شخص أن يصغه بخلاف ذلك، وبأن فريق بايدن يعتقد على ما يبدو أنه من خلال التصالح مع هذا الواقع، ستحظى الولايات المتحدة بفرصة أفضل للحصول على المزيد من المساعدة للأشخاص في سورية وتغيير العلاقات مع روسيا، وإبعاد إيران من المنطقة، وهو مطلب العدو الإسرائيلي.
من الواضح أن إستراتيجية الإدارة الأميركية في سورية «انتقائية» وهي بعيدة كل البعد عن الشعارات العريضة التي عادة ما ترفعها جميع الإدارات الأميركية بخصوص محاربة الإرهاب ودعم الاستقرار ونشر الديمقراطية، وهذه الأمور لا تحظى بإجماع المراقبين للسياسة الأميركية والوضع في سورية، حيث تكون جميع تلك الشعارات، مطية لتحقيق إستراتيجية أساسية وهي تحقيق أمن الكيان الإسرائيلي، وتطويع الأنظمة العربية، وجعلها تحت «الوصاية الأميركية»، وهنا تحضر مرة ثانية عين أميركا العوراء في مقاربة الأمور.