بعد مرور عشرة أيام على بدء الاحتجاجات في كازاخستان، تبدو صورة ما يجري غير واضحة تماما، فالشرارة التي اندلعت ثاني أيام شهر كانون الثاني الجاري، بعد يوم واحد من قرار السلطات في البلاد رفع سعر الغاز المسال الذي يعتمد عليه السكان كمصدر هو الأهم للطاقة، كانت لمدة كافية لامتداد اللهيب سريعاً من مدن جاناوزن وأكتاو يوم الأحد قبل الماضي، وصولا إلى مدينة ألما آتا التي بلغها اللهيب لتسجل ليلة دامية يوم الخميس التالي لهذا الأحد الأخير، وللمدينة الأخيرة رمزية استثنائية لا تدانيها حتى العاصمة نور سلطان، فهي تمثل العاصمة الاقتصادية لبلاد يتربع اقتصادها على عرش الاقتصادات في آسيا الوسطى، فيما جغرافيتها، التي تمتد لمليونين وسبعمئة ألف كيلو متر مربع، تعطي صورة أشبه ما تكون لعازل إستراتيجي في محيطها.
تدحرج كرة النار سريعا مع «هامشية» مفترضة لقدرة الشرارة، تشير إلى معطيين اثنين، أولهما: هشاشة الركائز التي يقوم عليها النسيج الاقتصادي – المجتمعي، الذي لا يزال، كما يبدو، قيد التبلور بعد ثلاثة عقود على الانتقال من الاقتصاد الموجه زمن الاتحاد السوفييتي، إلى اقتصاد ليبرالي متوحش ما انفك يراكم حكم «الأوليغارشية» منذ أن استتبت الأوضاع في البلاد في أعقاب انفراط عقد هذا الأخير العام 1991، وثانيهما: هرولة اللاعبين الإقليميين والدوليين، على حد سواء، للاستثمار في الحدث الذي لم يكن محيطه بركة راكدة، والشاهد هو أن هذا الأخير كان يتخذ في غضون الشهر الفائت وضعية «برميل بارود» تنبئ محتوياته بحتمية الانفجار على خلفية التوتر الروسي الأوكراني الذي استدعى بالضرورة نظيراً له روسياً غربياً.
من المؤكد أن الحدث قد جاء في توقيت غير مرحب به روسياً، فهو حل على بُعد أسبوع فقط من المحادثات الأمنية رفيعة المستوى التي عقدت في جنيف 10 من الشهر الجاري لمناقشة الضمانات الأمنية التي تقدمت بها موسكو في أعقاب التوتر الحاصل على الحدود الروسية الأوكرانية بسبب محاولة «الناتو» التمدد شرقا، والتي سيعقبها بعد يومين اجتماع لمجلس حلف شمال الأطلسي مع روسيا، ثم يلي ذلك، في اليوم التالي، اجتماع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في وقت كان قد قال فيه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي تترأس بلاده الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي، في تصريح أدلى به لتلفزيون BPM الفرنسي يوم الجمعة الماضي إن بوتين «يريد تخطي الاتحاد الأوروبي»، وأضاف إنه، أي بوتين، كان قد «اقترح نوعا من العودة إلى مناطق النفوذ التي كانت في الماضي، وهو ما يعني أن تستعيد روسيا روح يالطا»، في إشارة إلى التوافق الذي خرج به الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين مع الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في شباط 1945، الذي قضى بتقاسم مناطق النفوذ على امتداد العالم، واستمرت مفاعيله حتى العام 1989 عندما أدى تفكك «حلف وارسو» إلى انهيار اتفاق يالطا تلقائياً.
كانت سرعة التدخل الروسي الذي أعلنت عنه موسكو يوم الخميس 6 كانون الثاني الجاري بموجب المادة 4 من منظمة «معاهدة الأمن الجماعي» التي تأسست العام 1994، وهي تضم إلى جانب روسيا كلاً من بيلاروسيا وأرمينيا وطاجيكستان وقيرغيزستان، دلالة أكيدة على أن القراءة الروسية لما يجري تقوم على أن الفعل لا يعدو أن يكون «ربيعا تركيا» تدعمه واشنطن لإشغال روسيا في أوكرانيا، وإضعاف موقفها في المحادثات التي بدأت في جنيف الإثنين الماضي، ومن المؤكد أن موسكو تضع في خلفية الصورة السياسات التركية القائمة منذ العام 1991 في الجمهوريات التي استقلت ذاك العام، وهي في جلها ذات أغلبية إسلامية سعت أنقرة إلى جمعها ضمن منظمة «الدول التركية» التي تعقد قمماً دورية كان آخرها القمة التي انعقدت في اسطنبول شهر تشرين الثاني الماضي، والفعل من حيث تراجمه هو محاولة لخلق أذرع تمدد إقليمية تعتد بتقاربات اثنية ودينية تعطي تركيا فرصة للظهور بمظهر القادر على تحدي الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء، أقله في محيطها سابق الذكر.
الآن، من المؤكد أن موسكو لا تستطيع ابتلاع المرار الذي ابتلعته في ناغورني قره باغ قبل نحو عام ونيف، ومن المؤكد أن النار التي اندلعت في كازاخستان، على الرغم من مضارها الظاهرة سريعا على المصالح الروسية، إلا أنها ستدفع بموسكو، فور التقاط الأنفس، للاستثمار فيها، فالفرصة، إذا ما نجحت موسكو في تقديم الدعم الكافي للسلطات الكازاخستانية للسيطرة على الأوضاع بأسرع وقت، فستكون سانحة للاقتصاص من الرئيس التركي رجب أردوغان في كازاخستان بل في سورية وليبيا على حد سواء، خصوصاً إذا ما تبدت حالة من التناغم في الأداء التركي مع الإملاءات الأميركية، عندها ستكون اللعبة أكبر من الحجوم التي يحاول أردوغان إظهار بلاده عليها، وهي بالتأكيد تتخطى القدرات التركية، خصوصاً أن الأخيرة تعاني اليوم من عطب في محركاتها الاقتصادية، ولربما كان هذا الأخير مدعاة لتقارب مع واشنطن والذهاب مع إملاءاتها بما يحقق مراميها ويرتد إيجاباً على داخل تركي مأزوم اقتصاديا، لكنها ستكون مغامرة كبرى لأردوغان الذي سيكون قد وضع نفسه كجسر عبور للأميركيين الذين ما انفكوا يظهرون التململ من نظامه، وهم لن يترددوا في «إحراق الجسر» بعد العبور.
الآن، وبعد أن قررت موسكو التدخل في الإطار سابق الذكر، والحدث يمثل فعلاً هو الأول من نوعه منذ تأسيس «معاهدة الأمن الجماعي» سابقة الذكر، فإن حجم التدخل المعلن عنه حتى الآن لن يكون كافيا لتحقيق المرامي المرجوة منه، ولسوف تعقبه موجات أخرى وأخرى، وللأمر محاذيره بالنسبة لداخل كازاخستاني لا يميل إلى التدخل الأجنبي، لكن الأهم هو بالنسبة لداخل روسي تقول آخر استطلاعاته إن نسبة ميل الشارع فيه لتدخل عسكري خارجي يهدف إلى حماية المصالح والأمن الروسيين هي 2 إلى 1، بمعنى أن ثلث الشارع الروسي فقط يؤيد هكذا نوع من التدخلات، وهذا لا بد أن يؤخذ في حسابات السياسة الروسية التي ترى أنها مستهدفة في العديد من الاتجاهات.
شيء مهم يلوح في الأفق أيضا، وهو يتمثل في إمكان أن تتلبد الغيوم في السموات الروسية الصينية، على خلفية التمدد الروسي في كازاخستان، التي صفت على امتداد عقد كامل بما أتاح لبكين وضعاً استطاعت فيه تحصين المزيد من مواقعها، والتفرغ لنزع فتيل الألغام التي تنصبها واشنطن في مسارها الذي يشبه رسوخ جبال الهمالايا.
الاحتمالان السابقان، يبدو أن موسكو ونورسلطان قد أخذتهما بعين الاعتبار، وهو ما تجسد أولا بالتحرك السريع لوأد هذا «الربيع التركي» والنجاح في هذا المسعى، الأمر الذي انعكس ثانيا في إعلان الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف خلال اجتماع عبر الفيديو لرؤساء دول «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» أول من أمس، أن بلاده نجت من «محاولة انقلاب» وأن «النظام في كازاخستان تمت استعادته وأن عملية مكافحة الإرهاب على نطاق واسع ستنتهي قريباً إلى جانب مهمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي».