ثقافة وفن

محمد حرب «أبو صبحي التيناوي» وأبو الفوارس عنترة … من بيع الأدوات المنزلية والشغف الفني إلى الذاكرة وعالمية اللوحة … موضوعاته ارتكزت على الأساطير والملاحم الشعبية المتداولة

| سعد القاسم

كثير من الأعمال الفنية التي سنتحدث عنها وعن مبدعيها، موجودة في متاحف حقيقية، وفي مقدمها المتحف الوطني في دمشق، غير أن أعمال الفنان الذي سنبدأ معه هذه السلسلة (أبو صبحي التيناوي) ليست في المتحف الوطني، وإنما في متحف التقاليد الشعبية المعروف باسم (قصر العظم) رغم أنه افتتح بعد تأسيس المتحف الوطني بسنوات كثيرة.

التيناوي والفن الشعبي والتقدير

بدايات المتحف الوطني تعود إلى عام 1919، بينما افتتح متحف (التقاليد الشعبية) في أيلول (سبتمبر) عام 1954، من رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي. ويضم المتحف شخصيات من الجص بالحجم الطبيعي قام بتصميمها الفنان (محمود جلال) الذي سنتحدث عنه في حلقة قادمة، وعدداً غير قليل من أعمال (التيناوي). ومرد هذا الأمر إلى أن تجربة التيناوي لم ينظر إليها على أنها جزءٌ من الحركة التشكيلية السورية، فهي كانت منفصلة تماماً عن توجهاتها وتحولاتها، وعن التأثر بها، أو التأثير فيها، إلا فيما يتعلق ببعض التجارب المتأخرة، وقد صنفت دائماً على أنها نوع من الفن الشعبي الأقرب إلى الحرفة منه إلى الإبداع. وقد حدثني المرحوم الأستاذ حسن كمال أنه حين كان محافظاً لفرع الفن الحديث في المتحف الوطني، قام بشراء ثماني رسوم للتيناوي بقصد ضمها إلى مقتنيات المتحف، لكن الدكتور سليم عادل عبد الحق، المدير التاريخي للآثار والمتاحف، رفض الفكرة نهائياً فاحتفظ بها الأستاذ كمال لنفسه، وبعد سنوات حين كان الدكتور عبد الحق قد انتقل للعمل في (اليونسكو) فوجئ بمعرض في باريس خاص بأعمال التيناوي، فاتصل بالأستاذ كمال طالباً منه إدخال الرسوم إلى المتحف، لكن هذا الأمر لم يتحقق لأن بعض الرسوم كانت قد قدمت كهدية قيمة لبعض الأصدقاء، وما بقي منها صار صعباً التفريط به.

أشهر الرسامين العرب في موضوعه

مع أن هناك تجارب مشابهة لتجربة التيناوي بمواضيعها وتقنياتها، وخاصة في تونس محمد الفرياني، ومصر، فإنه يبقى أشهر الرسامين الشعبيين العرب، وأكثرهم انتشاراً، وقد عُرف على نطاق واسع من خلال رسومه التي استخدم فيها تقنية الرسم تحت الزجاج. ولد أبو صبحي التيناوي عام 1888، ونشأ في حي شعبي بجوار (باب الجابية) أحد الأبواب الجنوبية لسور دمشق التاريخي، حيث كان يملك دكاناً يبيع فيها الأدوات المنزلية ويستخدمها في الوقت ذاته (مشغلاً) لرسوماته، ومكاناً لعرضها وبيعها. اسمه الحقيقي محمد حرب، وحصل على لقب التيناوي عن طريق زوج أمه وبقي يوقع به طوال حياته، ويضيف إليه أحياناً عنوان باب الجابية – زاوية الهنود – دمشق – سورية. استمدت معظم رسومه مواضيعها من الحكايات والملاحم والسير الشعبية التي كان يسمعها من (الحكواتية) في مقاهي المدينة القديمة، وشكلت أساس ثقافته ومصدر إلهامه، وخاصة سيرة (عنترة وعبلة) التي كانت موضوع القسم الأعظم من رسوماته، على حين أنه لم ينل من التعليم إلا ما يساعده على كتابة اسمه، وبعض العبارات القليلة التي تسمي أبطال رسوماته، أو تصف الأحداث فيها. والطريف أنه كتب عنوانه في إحدى رسوماته (زاوية الهنود) بالذال وبالتاء المفتوحة (ذاويت).

التيناوي والتأثر والذاكرة

من الصعب تأكيد تأثر التيناوي برسوم شاهدها، لكن ذلك لا يمنع من افتراض حدوث مثل هذا الأمر، ذلك أنه تظهر في رسوماته المفاهيم الفنية التي سادت في المنطقة منذ حضارات وادي الرافدين، مروراً بالأيقونات المسيحية، والمنمنمات الإسلامية، لا لجهة الأسلوب الذي يلغي المنظور التقليدي، والبعد الثالث فحسب، وإنما أيضاً لجهة طريقة بناء اللوحة، وعدم ترك مساحات فارغة فيها، حيث تُشغل أي مساحة فارغة بالزخارف والكتابات. وإلى ذلك تتناول الرسوم بعض الحكايات الدينية ذات البعد الشعبي. وتملك الخيول حضوراً مهماً في رسوم (التيناوي) مستعيدة من الذاكرة الرسوم التقليدية لمار جرجس (الخضر)، والصور المتخيلة لـ (البراق) الوافرة الحضور في الرسوم الشعبية الإسلامية. كما يظهر بشكل ما تأثره بتقنية (صندوق الدنيا) الذي يترافق فيه حديث (القصاص)، مع رسوم القصص التي يقصها، والتي يتابعها المشاهد (الأطفال غالباً) عبر نوافذ زجاجية دائرية صغيرة، تكاد لا تصل إلى سعة مساحة وجهه.

في اللون والتقنيات

كحال معظم تجارب الفن الشعبي التي وصلتنا، استخدم التيناوي الألوان الأساسية من دون متمماتها، وكان يميل إلى الألوان الأكثر صراحة على خلفية بيضاء تضاعف من قوة حضورها، واتسمت خطوطه بالليونة والعفوية ولم يكن على الأرجح يخطط لرسوماته مسبقاً حيث إنه في بعضها لم يتسع الكادر لباقي ذيل الحصان فأتمه على جانب آخر من (اللوحة).

رحيله وشهرته

توفي التيناوي في أوج شهرته ونجاحه عام 1973 من دون أن يغادر مسقط رأسه. وربما أن مصادفة سعيدة ساهمت في هذه الشهرة والنجاح، إذ يقال إنه لفت انتباه فريق تلفزيوني أجنبي كان في زيارة لسورية فأعد تقريراً عنه. وإذا كانت موهبته الفطرية ليست مما يُختلف عليه، فإنه لا يمكن التسليم بفكرة أنه حالة فريدة غير متكررة في الفن الشعبي السوري، لأن الفرصة التي أتاحت التعرف إلى تجربته، لم تتح لآخرين لا نعرفهم، ونفترض أنهم وجدوا في زمن ما ومكان ما. ومنهم على الأقل رسامو (صندوق الدنيا)، والكثير من الرسوم الشعبية المغفلة من أسماء أصحابها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن