أجرى «معهد واشنطن للدراسات» يوم الخميس 6 كانون الثاني الجاري حواراً مع قائد «قوات سورية الديمقراطية – قسد» مظلوم عبدي المدعوم أميركياً وغربياً في جزء وازن من هذا الأخير، ولربما نجد أن من المفيد، قبيل الولوج في مناقشة «تهويمات» عبدي التي خرج بها في سياق حواره سابق الذكر، سرد سيرة ذاتية مقتضبة جداً عن هذا الأخير لعلها تكون مفيدة في سبر عمق الأفكار، فالرجل نشأ في محيط موال لـ«حزب العمال الكردستاني»، وهناك العديد من المصادر التي تقول إنه تربى على يدي عبد اللـه أوجلان مؤسس الحزب الذي اعتقلته أجهزة الاستخبارات التركية بالتعاون مع نظيرتيها الأميركية والإسرائيلية العام 1999، فحلّ، منذ ذلك التاريخ، نزيلاً على سجن «ايمرالي» في تركيا، وعليه فقد نشب على تبني الإيديولوجيا الماركسية التي شكلت المنهج المعرفي الذي يغرف منه هو وحزبه الذي انتسب إليه مبكراً، ولربما جاء الفعل، أي تبني الإيديولوجيا الماركسية كرؤية أو كحل، لمشاكل المجتمع المستهدف الذي تغوص فيه الانتماءات القبلية والعشائرية فتجعل من تأثيراتها عليه فعلاً معيقاً للعمل السياسي الذي يهدف إلى تجميع قوى المجتمع الذي ينشط فيه، لكن الرجل اكتشف فيما بعد أن تلك الإيديولوجيا باتت وبالاً عليه شخصياً وعلى أهدافه الراهنة، وظهر ذلك في التصريحات التي أدلى بها صيف العام 2020، بالتزامن مع نظيرة لها صدرت عن السيدة إلهام أحمد، وهي في مجملها كانت تشكل نزعة واضحة للانفكاك عن منظومة «جبال قنديل»، أي تعني أيضاً انفصالاً عن حزب العمال الأم وأيدولوجيته الماركسية، حيث سيبرز اسم عبدي في تلك الفترة كرمز لذلك الانفكاك، لكن سرعان ما طويت تلك الصفحة بعيد استدعائه إلى مقر القيادة في شمال العراق، الفعل الذي جرى من خلاله إعلان «توبته» بعد أن قيل له إن تكتيكه السياسي الذي يهدف من خلاله إلى استرضاء أنقرة وجعلها أقل عدوانية تجاه مشروعه، لن يكون بحظ أوفر من الحظوظ التي لقيها إعلان أبي محمد الجولاني زعيم تنظيم «جبهة النصرة» انفكاكه عن تنظيم القاعدة صيف العام 2016، ومن حيث النتيجة جرى، بعيد ظهور النزعة وما تبعها من إعلان التوبة، تهميش واضح للدور الذي يضطلع به مظلوم عبدي مع الإبقاء عليه كواجهة مضمونة الولاء للمشروع الذي تقوده منظومة جبال قنديل.
يقول عبدي في سياقات ذلك الحوار المطول إن «التوصل إلى حل لن يتحقق إلا بضغط مستمر من الأطراف الدولية على حكومة (الرئيس بشار) الأسد، ونحن نؤمن أنه في حال حدوث اتفاق بين شرق الفرات وغربها وبرعاية دولية فإن كل المشاكل في سورية سوف تحل تباعاً»، ومن الواضح هنا أن عبدي، الناطق باسم منظومته، يراهن على ضغوط دولية من شأنها الدفع بالحكومة السورية للقبول بما ترفضه هذه الأخيرة، والقول يبرز لدى قائله رؤية آنية قاصرة، فالفعل، حتى لو تحقق، لن يفضي إلا إلى إنتاج وضع مؤقت بمكاسب مرحلية، إذ لطالما أثبتت كل تجارب التاريخ أن التسويات التي تفرض من الخارج مصيرها إلى الزوال بمجرد تغير المعطيات، وما يجعل من تلك التسويات راسخة هو أن تنبع من لحظ التوازنات الداخلية مع الأخذ بعين الاعتبار لجذور المشكلة التي يجب أن تكون معياراً أساسياً في التسوية المفترضة، أما قوله بأن «حدوث اتفاق بين شرق الفرات وغربها سوف يفضي إلى حل كل المشاكل تباعاً في سورية»، فهو ذو نزعة انفصالية لم تكن واضحة في يوم من الأيام كما اتضحت من خلال ذلك القول، فالبلاد، وفقا لعبدي، باتت «فسطاطين» أحدهما يقع في الشرق، والآخر في الغرب، وذلك تقسيم الهدف منه تثبيت القامشلي في موقع هو الند لموقع دمشق.
وفي إطار عرضه لعلاقات تنظيمه مع المعارضة السورية يقول: «علاقتنا مع المعارضة ليست جيدة، وخاصة بعد احتلال عفرين وتل أبيض ورأس العين، وتعاملهم مع تركيا، وطلبهم منها احتلال تلك المناطق»، وإذا كان منطقياً القبول بالشق الأول الذي أدان فيه تعامل «المعارضة السورية» مع الإملاءات التركية، فإن الكيل بالمكيال نفسه يطرح سؤالاً مهماً هو: ماذا عن أولئك الذين تعاملوا مع الأميركيين وطلبوا منهم أيضاً ذات الطلب الذي طلبه من يدينهم عبدي؟
لا يبدو عبدي في العديد من مواقع الحوار قارئاً سياسياً جيداً، إلا إذا كان ما قاله من النوع الذي أملي عليه فقاله خارج رؤيته، ففي خلال عرضه للتأثيرات التي يمكن أن يحملها اتفاق جديد بين إيران ومجموعة 1+4، يقول: «لا نعتقد أن الدور الكردي سوف يتقلص إذا ما حصل اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران»، وقبيل أن نعقب هنا، لا بد من الإشارة إلى وجود خلط يبدو متعمداً في استخدام المصطلحات، فالدور الكردي بالتأكيد لن يتقلص إذا ما خرج الدخان الأبيض من قاعات فندق «كوبورغ» في فيينا الذي يحتضن المفاوضات، فذاك الدور لعب على الدوام دوراً حيوياً نشطاً في المجتمعات التي يتقاسم معها الهموم والأماني والتطلعات، وإن كان يتمايز عنها، وذاك حقه بحكم التكوين الثقافي، في بعض الأحيان تجاه تلك المعطيات، لكن ما سيتقلص هو المشروع الكردي الذي سيدخل طور التلاشي الذي يسبق الذوبان تماماً، وفي مطلق الأحوال يمكن الجزم بأن ذلك المشروع كان قد بدأ بالانحسار منذ «استفتاء الاستقلال» الذي أجراه إقليم شمال العراق أيلول من العام 2017.
هناك الكثير مما يمكن التوقف عنده في حديث مظلوم عبدي، وكله إشكالي ومثير للدهشة، فهو يقول عندما يأتي على ذكر العلاقة مع الأميركيين «إنهم لا يقولون إن على الجيش الأميركي البقاء هنا للأبد، ولا أن يقوموا بحمايتنا»، ثم يضيف: «نقول لهم إنهم لا بد أن يبقوا حتى التوصل إلى حل سياسي»، وهذا يشير إلى مسعى لإقامة «محمية» تعتد بظلال خارج ما انفك يسعى إلى تقطيع أوصال الجغرافيا السورية المثخنة بالجراح منذ نحو قرن من الزمن.
يمكن الجزم أن عبدي ومشروعه يستل السكين عينها التي استلها سايكس وبيكو العام 1916، وغورو العام 1920، وأتاتورك العام 1939، لكن الظروف تختلف فـ«سكين» اليوم مثلومة بحقائق ومعطيات عديدة لا تخولها تحقيق ما استطاعت تحقيقه نظيراتها بالأمس.