ثقافة وفن

«ما بعد النظرية» آفاق المعرفة وميدان التطبيق … الآثار الاجتماعية والثقافية للنظريات النقدية والفلسفية

| إسماعيل مروة

النظرية النقدية والسياسة، عالم من الفكر الذي لم ندرك أبعاده إلى اليوم في محيطنا الثقافي العربي، وهو في عمق الفكر الغربي الذي خرج بهذه النظريات الفعالة والمناسبة للبيئة التي خرجت منها، ومشكلتها الكبرى في أوساطنا العربية أنها تدرس ويحاولون تطبيقها في مجتمع لم يتهيأ لها، وغير قادر على مواكبتها واستيعابها، مثلها مثل المصطلحات السياسية الكبرى التي ينادي بها مثل الديمقراطية وسواها في مجتمعات لم تكن قط مؤهلة لها.. والنظريات الأدبية التي جاءت من الغرب بوساطة الدارسين والترجمة هي من الأهمية بمكان من الألسنية إلى الكولونيالية إلى الماركسية والبنيوية والتكتيكية وصولاً إلى نظريات ما بعد الحداثة، وقد سمعت من أساتذة جامعيين من يصرّح بعدم فهمه لهذه النظريات، وهو على حق، ولكن عليه أن يحاول الفهم والوضع في السياق.

ما بعد النظرية والسياسة

عنوان الكتاب (ما بعد النظرية) فهو دراسة ثقافية مجتمعية للنظريات عامة، وأثرها ودوافعها، وما بعد وجود هذه النظريات، ولا يعنى بنظرية محددة، وفي الوقت نفسه يقدم النظريات جميعها من منظور تأثيرها الأدبي والنقدي، وتأثيرها السياسي والإيديولوجي، ولننظر في أهم النظريات التي أثارت جدلاً في أروقة الأمم المتحدة وحقوق الإنسان (الجندر) فإن الباحث الناقد المتعمق في هذا الكتاب يظهر أن نظرية الجندر كانت وليدة للنظريات النقدية، وكانت نتيجة طبيعية للأدب وانعكاسه، وكذلك للرؤية النقدية:

«هذا التتفيه» والبخس من قدر الجنسانية مثير للتهكم بوجه خاص، فقد كانت إحدى الإنجازات البارزة في النظرية الثقافية إنشاء الجندر والجنسائية بوصفهما موضوعين مشروعين للدراسة، فضلاً عن المسائل ذات الأهمية والسياسية الملحة «ويتابع حول الموضوع نفسه ما يؤكد عمق النظرية وأثرها (للساعد هذا الظهور في هدم العقيدة المتزمتة القائلة إن الجدية شيء والمتعة شيء آخر يخطئ الشخص المتزمت إذ يحسب المتعة طيشاً، لأنه يحسب الجدية رزانة» وهذا ما يفسر (ما بعد النظرية) أي دراسة أثر ما بعد النظرية الأدبية والثقافية والنقدية.

النظريات النقدية والمجتمع

«إن تذكر التاريخ السياسي الذي هز العالم يعني أيضاً تذكر تاريخ الهزيمة في معظمه، بالنسبة إلى اليسار السياسي على الأقل، وقد بدأت الآن على أية حال مرحلة جديدة أو مشؤومة من السياسة العالمية، التي لن يستطيع أكثر الأكاديميين انعزالاً تجاهلها، ومع ذلك، ما أثبت أنه أكثر ضرراً، على الأقبل قبل ظهور الحركة المناهضة للرأسمالية، هو غياب ذاكرة الناس والعمل السياسي الفعال، هذا ما شوّه معظم الأفكار الثقافية المعاصرة، ثمة دوامة تاريخية في مركز فكرنا تسحبه بعيداً عن الحقيقة».

هذا الجزء المقتبس هل يمكننا أن نعزله عن الحراك المجتمعي والثقافي والسياسي العالمي، والكاتب ليس كاتباً عربياً مأزوماً، وإنما ينتمي إلى المجتمع الذي خلق هذه النظريات وطورها ليعيش فيما بعد نتائج ما بعد النظرية التي لم تحمل بعداً نقدياً أدبياً، بقدر ما حملت الأبعاد الإيديولوجية والثقافية والتاريخية.

وعند حديثه عن الماركسية النظرية يقول مؤكداً البعد الثقافي والاجتماعي والسياسي «غيبت الماركسية بالتأكيد الجندر والجنسانية، لكنها لم تتجاهل هذه الموضوعات على أية حال.. أما الانتفاضة التي كانت تهدف للإطاحة بالقيصر الروسي وتأسيس النظام البلشفي مكانه، فقد انطلقت بمظاهرات في يوم المرأة العالمي عام 1917».

وهذا يبرز بشكل واضح العلاقة التي تربط بين النظريات والمجتمع، وهذه النظريات، وإن حملت لبوساً سياسياً أو أدبياً، إلا أنها في المجتمعات التي نشأت منها، كان لها أن تخرج من حاجات اجتماعية، بل استطاعت أن تكرس المجتمع لصالحها، وربما تجاهلت ما يحتاجه المجتمع بعد وصول النظرية إلى الميدان التطبيقي.

ويجدر بنا أن نقرأ إيفلتون بعمق وروية لنعرف ما يريد بها بعد النظرية، وها هو يقف بوضوح دون لبس عند علاقة النظرية بالمجتمع.

«إن التحيز ما بعد الحداثي ضد المعايير والتوافقات والإجماعات لهو تحيز كارثي من الناحية السياسية، بل إنه غبي على نحو ملحوظ».

وفي موضع آخر يقول: «ولد الانتقال من الماركسية الغربية إلى الثقافة إلى حد ما من العجز السياسي وخيبة الأمل».

تكتسب هذه النقول أهميتها وقيمتها من أنها تظهر الفهم الحقيقي للنظريات وتحوّلها وانتقالها، فهذه الماركسية من شرقية إلى غربية إلى تحولات ثقافية، وهذا كان التطور الطبيعي لها في بيئتها التي خرجت منها وانتقلت إليها، بينما في تلقي الماركسية العربية، لا تزال النظرة إليها على أنها رؤية سياسية إلحادية وحسب، ولم نلحظ تحوّلها إلى غربية وثقافية، فهل يفيدنا الوقوف عند النظرية ومنطلقها؟ هل تلقينا النظريات وطورناها وحولناها إلى رؤى ثقافية؟

أم إننا لا نزال نقف عند الرؤية الإيديولوجية التي انطلقت منها، ونتجاهل الحاجات الاجتماعية؟

ما بعد النظرية كتاب مختلف في طرحه وتناوله، فهو يسعى سعياً معرفياً وفكرياً وثقافياً، ويقدم معالم لربط النظريات بما قبلها وما بعدها، لمعرفة ما يدور في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية من ارتدادات للنظريات وتطبيقها.

لمن هذه النظريات؟

لقد صدرت هذه الرؤى النقدية، والتي تحولت إلى نظريات حين أثبتت جدواها وقدرتها، ووجدت مناصرين وخصوماً، فهي في الأساس ليست كما يحاول من يجهلها أن يدّعي أنها لعداء ثقافتنا، فهي في الأصل غير موجهة لنا، ولم تكتب لنا، وإنما كتبت لمجتمعاتها، وإن قصدنا فيها، فإنما على الهامش، ولا نعنيهم من قريب أو بعيد، إضافة إلى أن هذه النظريات تحولت بعد ولادتها، وصارت جزءاً من بنية المجتمع الغربي، والشرقي الغربي أيضاً، في إطار رحلة بحث النقاد والمثقفين عن نظريات وآليات لا تقتصر على فهم النص الأدبي، وإنما تقصد البنية السياسية، وآليات التفكير، والبحث في الوجود والكينونة والمستقبل، وهذا يعني توجه كاتبيها إلى مجتمعاتهم، والخصومة مستحكمة بين أتباع النظريات ومشرّعيها من أجل مجتمعاتهم، ما دفع الغرب إلى تجاوز المراحل نتيجة القراءة والتجريب والنقد، أما لدينا فلا مجال لقبول هذه النظريات وتطبيقها لأن مجتمعاتنا لم تمر في هذه المراحل، وما تزال البنية النقدية والفكرية والحياتية والسياسية مرتبطة بفكر العشيرة والقبيلة والنص..! وهذا ما يمنع من وجود نظرية عربية ولو كانت خاصة، وغير مأخوذة من مصدر آخر، لأنها تتنافى مع الواقع الاجتماعي والفكري والسياسي العربي، وأي نظرية نقدية هي نظرية انقلابية ضد مصالح المهيمنين، والمستفيدين من بلادة وتقريرية.. والدليل إن المجتمع الغربي استولد النظريات، وعالجها، وفصّلها، وشرّحها، أخذ منها ما أخذ، رفض منها ما رفض، وبنى على بقايا بعضها نظريات تنهل منها، وتأخذ مناحي أخرى، فالنظر أولاً لا ينطلق من أن هذه النظريات تريد تحطيم تراثنا وأدبنا وعقيدتنا، ومن المؤكد أن الغرب يسيطر ويريد متابعة السيطرة، وهو يفعل، لكنه من خلال هذه النظريات طور فكره وسياسته ومجتمعه وإنسانه ليتابع رحلته.

النظريات وفهمها

قدّم لنا أساتذتنا بعض هذه النظريات من خلال كتب مترجمة عن النظريات مباشرة، ووجدنا أنفسنا أمام نظريات تشبه ما لدينا ولكن بمسميات أخرى مختلفة، وعرفونا بسوسور وتشومسكي وبارت وسواهم، من خلال شذرات متخصصة عصية على الفهم، ولم يبذلوا جهداً كبيراً لوضع هذه النظريات في سياقها السياسي والاجتماعي.

وها نحن اليوم نعرف تشومسكي بطريقة مغايرة، فهو ليس لغوياً وألسنياً وحسب، بل هو مؤثر ثقافي وإيديولوجي تاريخي، ولو درسنا تشومسكي بهذه الطريقة كان من الممكن أن نفهم النظرية ومؤداها بشكل أفضل، وأكثر النقاد في الغرب، وإن انتموا إلى دول غربية، إلا أنهم ينتمون إلى تيارات فكرية اشتراكية وماركسية، وإن أكثر هؤلاء ينتمون إلى أجنحة سياسية مختلفة ومتصارعة، والنظريات النقدية تدخل في إطار الصراع السياسي والفكري، هذا الكلام ساقني إليه كتاب أمتعني وأرهقني كثيراً في قراءته هو (ما بعد النظرية) لتيري إيغلتون، وترجمه بلغة مشرقة الدكتور باسل المسالمة، هذا الكتاب المهم الذي أعاد ترتيب جملة الدراسات التي قرأتها من قبل، وجعلني أضع النظرية في سياقها الفكري والسياسي والإيديولوجي والنقدي، وكل ذلك لخدمة المجتمع الغربي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن